صفحات العالم

نقاش في حوادث الثورة السورية وتعقيداتها/ ماجد كيالي

 

باتت التحليلات المتعلقة بالوضع السوري مشوبة بشحنات من المرارة، والقلق، وربما الإحباط أو اليأس، فالثورة دخلت في عامها الرابع، مع مئات الألوف من الضحايا، شهداء وجرحى ومعوقين ومعتقلين وملاحقين، ومع ملايين المشردين، الذين باتوا بلا عمل وبلا مأوى، وبلا وطن. حقاً هذا واقع يشبه النكبة الفلسطينية وربما أكبر منها بكثير.

باختصار ثمة كارثة، بمعنى الكلمة، ولا يبدو أن ثمة في الأفق ما يحمل على الاعتقاد باقتراب الخلاص، فالأوضاع الدولية تعاند السوريين، ولا تتجاوب مع الحد الأدنى لمتطلباتهم، والأوضاع العربية والإقليمية لا تساعدهم على نحو جيد، بل إن بعض الأطراف وجدت في هذه الثورة فرصتها لفرض ذاتها كلاعب إقليمي، من خلال التلاعب بالثورة وفرض مسارات أو خطابات معينة عليها.

والمشكلة أن الأوضاع على الصعيد الداخلي، أي وضع الثورة ذاتها، وقدرتها على التحكم بأحوالها، وعلاقتها بمجتمعها، لاتبدو أفضل حالاً، لا بالنسبة للقوى السياسية المدنية ولا بالنسبة للجماعات العسكرية.

بيد أن كل ذلك لا ينبغي أن يصرف الانتباه عن أن الأحوال لن تعود إلى السابق، وأن هذه الثورة على علاتها أنهت إلى الأبد، فكرة «سوريا الأسد»، بكسرها الانسداد الحاصل في تاريخ سوريا، وهذا شيء ليس بالقليل، وغير مسبوق، بالنسبة للشعب السوري، ومجتمعات هذه المنطقة.

ولعل ما ينبغي ادراكه، في هذه الظروف، بدلاً من الاستسلام للامبالاة أو القنوط أو الإنكار أو المكابرة، حقيقة أن خيار انتظار أو هندسة ثورة أفضل، ووفقا للمعايير، هو بمثابة أمر مستحيل. والمعنى أن ثورة السوريين ما كان لها أن تكون إلا بهذا الشكل، الارتجالي والمزاجي، الفوضوي والمرضي، وذلك تبعاً لحال الإفقار أو الحرمان السياسي، الذي كان يعيشه شعب سوريا، وبالقياس لحجم السيطرة على المجتمع والدولة، والتي تكرّست عبر عقود، بفعل وسائل السيطرة والإخضاع والمحو، الناعمة والخشنة.

لكن القول بأن هذا هو واقع الثورة السورية، وأنه ما كان يمكن توقعها على نحو أفضل، لا يعني أن الأمور تسير على مايرام، ولا التزام التغطية على أخطائها، أو عوراتها. فهذه الثورة انطوت على مفاجآت خطيرة، أولها، عجز الطبقة السياسية السائدة عن انتاج قيادة، أو أقله مرجعية قيادية، مدنية وعسكرية، وعدم محافظتها على خطابات الحرية والديموقراطية والكرامة الذي صدرتها الثورة في بداياتها، ما أضر بصدقيتها إزاء العالم وإزاء شعبها. وبالمحصلة، فإن هذه الطبقة لم تثبت أهليتها، بالقدر الذي يتناسب مع الأهمية التي تتمتع بها الثورة السورية، والتضحيات التي يبذلها شبعها.

المفاجأة الثانية، تمثلت في حجم المداخلات الخارجية المضرة في الثورة السورية، والحديث هنا بالطبع لا يجري عن التدخل لصالح النظام من قبل روسيا وإيران وحزب الله وداعش وعصائب الحق وكتائب أبو الفضل العباس ونظام المالكي، وإنما عن التدخل المتأتي من الأطراف الداعمة لهذه الثورة، والتي اشتغلت بشكل متضارب، وحسب مصالحها، ووفق حساباتها، ما أربك الثورة وزجها في معارك غير محسوبة، استنزفها وأضعفها. وبديهي أن المسؤولية هنا لاتقع فقط على عاتق الدول المعنية فقط، إذ ثمة قسط من المسؤولية يقع على عاتق أطراف المعارضة ذاتها. أيضاً، لأنها سكتت عن هذه التلاعبات والمداخلات، عن غير وجه حق، ولأنها كانت في أحيان كثيرة مطية لها.

المفاجأة الثالثة، تمثلت بمدى الهشاشة والتفكك التي بدا عليها المجتمع السوري، والذي ظهر على شكل مجموعات سكانية متباعدة ومتفارقة، يكاد أن لا يجمعها جامع، فضلا عن أن هذه المجموعات بدت وكأنها لا تبالي بما يجري، أو كأنها سلمت لاعتبارها سوريا بمثابة مكان للإقامة وليس وطنا يضم كل السوريين.

والحال فإن هذه المفاجآت ربما لم تكن متوقعة على هذا النحو، وإلى هذه الدرجة، لكنها ولدت مخاطر كثيرة، أولها، أن المداخلات الخارجية باتت أكثر تأثيرا بالنسبة لتقرير مستقبل سوريا، لاسيما بسبب زيادة اعتماد الثورة على الدعم الخارجي المالي والتسليحي، وغياب بعدها الشعبي، وضعف تنظيمها لذاتها، وأيضا بسبب انتهاجها خيارات عسكرية معينة عن غير دراسة، أو تبصر. وثانيها، أن النظام استطاع بمساعدة حلفائه إخراج أغلبية المجتمع السوري من معادلة الصراع، بتدميره البيئات الشعبية الحاضنة للثورة، وبتشريده ملايين السوريين. وثالثها، أن الثورة السورية مازالت بحاجة لقيادة أو مؤسسة قيادية، وأن الأمور لا يمكن ان تشتغل على نحو صحيح، من دون ذلك. فما كان مقبولا في الأشهر الأولى أو العام الأول أو الثاني لم يعد مقبولا ولا مفهوما.

ولعل هذه مناسبة للاعتراف بأخطاء كبيرة ارتكبتها الثورة، ولو عن غير قصد، ضمنها الاعتقاد بأن معظم السوريين، على اختلاف مكوناتهم في صفها، في حين بَينت الأحداث أن تعقيدات الوضع الطائفي والمذهبي والإثني في سوريا أكثر صعوبة، وأكثر تعقيدا من أن يتم تأطيره في معادلة تتألف من مقولة بسيطة: ثورة في مواجهة نظام. وعلى النقيض من ذلك فقد استمرأت بعض خطابات المعارضة تفسير أحوال سوريا بوجود سلطة «علوية»، من دون تمييز بين هويتها وبين الطائفة التي تسيطر عليها أكثر من غيرها. وقد بينت التجربة أن هذا وحده لايفسّر بقاء النظام، فإلى استخدام القوة العاتية والمداخلات الخارجية المتضاربة التي عوّقت الثورة وأضرت بها، فإن بقاء هذا النظام يرجع إلى نواة صلبة تتألف من كل مكونات المجتمع أي سنّة ومسيحية، مشايخ وقساوسة، يساريين وعلمانيين وقومجيين وموظفين ورجال أعمال ومثقفين من كل الطوائف، ما يفسر عدم قدرة الثورة على تنظيم عصيان مدني مثلاً أو فكفكة جهاز الموظفين.

وبديهي فإن استسهال التحول نحو الثورة المسلحة، والتسرع في التعويل على العمل المسلح، كان له كبير الأثر، أيضاً، في وصول الثورة إلى هذا المأزق، مع التقدير لكل التضحيات والبطولات التي بذلت، والتأكيد بأن الحديث هنا لا يتناول الأفراد أو ظاهرة وحدات الدفاع المحلية، أو ظاهرة المنشقين عن الجيش، وإنما يتناول الجماعات العسكرية التي جرى ترتيبها في الخارج وإقحامها في الداخل السوري، وتقديم الدعم لها، على حساب الجيش الحر، لفرض أجندة معينة، أو لصبغ الثورة بلون معين. وبالتأكيد فإن الأخطر من هذا التحول، هو انتهاج خط السيطرة العسكرية على المدن، والذي أدى الى تحميل الثورة عبء «المناطق المحررة» (الأمن والخدمات)، وهو ما عجزت عنه، ناهيك أن ذلك سهل على النظام الإمعان في تدمير هذه المناطق وتشريد شعبها، وإفقاد الثورة البيئات الشعبية الحاضنة لها.

وبدوره، فإن المراهنة على أي شكل ما من أشكال المساندة أو التدخل الخارجيين، وهو لم يحصل، أثرت بشكل سلبي، في انتهاج خيارات معينة، ولاسيما في التحول نحو حصر الثورة في العمل المسلح، وزيادة الاعتماد على الخارج، وتوهم قيام مناطق محررة.

وأخيراً، فإن صبغ الثورة بلون معين، أي بالتدين والطائفية، على حساب طابعها الوطني، هو نتاج التحول نحو العسكرة، مع الافتقاد للحاضنة الشعبية، والتعويل على الخارج، وقد كان لذلك أثره في التسهيل على جماعات «القاعدة»، وبالتالي على «داعش»، فرض ذاتها في المناطق «المحررة»، والتحول إلى نوع من ثورة مضادة، أثقلت على ثورة السوريين وشوهت صورة كفاحهم، وزادت أحوالهم صعوبة وتعقيدأً.

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى