نقد «الثقافويّة» ونقده في مسألة الهزيمة الحزيرانيّة/ موريس عايق
لم تقتصر الذكرى الخمسون لهزيمة حزيران (يونيو) 67 على استعادة أحداثها وحسب، بل ترافقت أيضاً مع استعادة أدبيات نقد الهزيمة، النقد الذي انتشر في شكل واسع بعدها. لكن هذه الاستعادة أتت تحت مبضع «نقد الثقافوية»، وهو نقد يصدر عن مشارب إيديولوجية متباينة. يقدم «نقد الثقافوية» منقوده، أدبيات نقد الهزيمة باعتبارها نقداً للثقافة، بصورة تبدو كاريكاتورية ومصطنعة إلى حد بعيد. تظهر الثقافة في أدبيات نقد الهزيمة، ووفق نقاده، أقرب ما تكون إلى البيولوجيا، غير تاريخية وثابتة على رغم الزمن وتحكمنا بحتميتها. ربما تصدق هذه النظرة على البعض إلى هذا الحد أو ذاك، لكنها عموماً مجافية وبشدة لحال هذا «النقد»، الذي صدر في غالبيته عن ماركسيين وتقدميين، يحملون نظرة مادية وتاريخية للثقافة كما لدى ياسين الحافظ وصادق جلال العظم ومحمد عابد الجابري وغيرهم.
يُشار، مثلاً، إلى أن نقد الهزيمة نقل الهزيمة من «هزيمة عسكرية» إلى هزيمة حضارية، متغافلاً عن التحليل العسكري والسياسي والتاريخي المرافق للهزيمة. فالحافظ، مثلاً، رأى في هزيمة حزيران كشف حساب للمجتمع بأكمله، حيث أنها لم تكن مجرد هزيمة عادية أمام مجتمع ند لنا، بل هزيمة فيل أمام فأر. ما رآه الحافظ يومها في الهزيمة ككشف حساب للمجتمع، يحظى اليوم براهنية أكبر مع الهزيمة الشاملة والتي تقدم كشفاً بحسابها أينما أدرنا وجهنا: فشل التنمية الاقتصادية وبناء الدولة الحديثة والجماعة الوطنية والحروب الأهلية المتنقلة.
لا يوجد تجنٍّ تاريخي في النظر إلى واقعنا الحالي عند الحديث عن أدبيات «نقد الهزيمة» والتي مضت عليها عقود. على العكس، فإن هذه مسألة أساسية في طبيعة نقد الهزيمة نفسه، فلم يكن غرضه تقديم تحليل علمي محايد للهزيمة، بل تقديم نقد سياسي لها، يهدف إلى تجاوزها. باعتقادي، ما يضيعه «نقد الثقافوية» هو الفكرة المحورية التي حفزت أدبيات نقد الهزيمة، والتي سيحاول هذا المقال استعادتها والدفاع عن راهنيتها.
لنفكر مثلاً بمريض السل، وهو مرض قد يصبح قاتلاً إن لم تتم معالجته. عند وصف الحالة وما قد تؤول إليه فإن هناك جانباً موضوعياً صرفاً، وجود بكتيريا تسبب المرض وآلية عملها، وجانباً «ذاتياً» متعلقاً بسلوك المريض واعتقاداته التي تفسر سلوكه. فإذا كان المريض يعتقد بالوصف العلمي للمرض، وأن سببه بكتيريا يمكن مراقبتها وشرح سلوكها علمياً وبالتالي مواجهتها، فإنه سيذهب إلى الطبيب. أما إذا اعتقد المريض بعالم سحري، تُفسر فيه الأمراض كعقاب إلهي أو بالأرواح الشريرة، فإنه سيلجأ إلى المعالجين الروحيين وكتاب الرقى والتعاويذ. لأجل شرح الحالة وما ستؤول إليه فإننا في حاجة إلى كلا الجانبين، الموضوعي والذاتي. الوصف المتعلق بالبكتيريا كسبب للمرض وأيضاً وصف سلوك المريض الذي يُفسر بالإحالة على اعتقادات المريض عن العالم والمرض، أي ثقافته.
ثقافة المريض مسؤولة عن تفسير سلوكه وعن نتائج هذا السلوك، لكنها ليست مسؤولة حصراً عن كل نتائج الحالة المرضية التي ربما يعجز الطب لاحقاً عن علاجها، وعليه فإن نقد الثقافة شرط نقد سلوك المريض وما ينتج منه.
ينطلق نقد الثقافة من مسلمة أساسية وهي الارتباط بين حرية الإرادة والمسؤولية، مسؤولية البشر عن سلوكهم وقدرتهم على تغيير وتصحيح معتقداتهم واتخاذ القرارات الصائبة لاحقاً. هذه القدرة مُسلمة مُلزمة للفعل السياسي، ومن دونها لا معنى للحديث عن السياسي لاحقاً. رفض نقد الثقافة، تحت مسميات البنية التحتية أو الاجتماعية أو غيرها، يؤول في النهاية إلى تصور يجعل من الثقافة نتاجاً حتمياً لبنية أخرى، ما يعني أننا لسنا سوى آلات تفكر في إطار قوانين ضرورية، وهو معاكس تماماً لما يريده هذا النقد ويحتج عليه.
ربط كانط الحرية بالمسؤولية، وهو ربط يجد له مقابلاً في التراث الفقهي الإسلامي، فلا يمكن لإحداهما أن تنفصل عن الأخرى. لا يتحمل المسؤولية سوى الحر، وشرط الحرية أن نكون مسؤولين عما نفعل. فلو كانت ثقافتنا أو سلوكنا محكومين بقوانين أو بنى تحتمهما، لما كان هناك داع للنقد الثقافي ولكنا مجرد آلات مفكرة. فالآلات الخاضعة لقوانين ضرورية لا تخطئ، بل من يخطئ هم الذين تولوا برمجتها.
الحرية تفسح المجال لمسؤولية الإنسان عن اعتقاداته وأفعاله وإمكانية تغييرها، ولا تردّها بالكلية إلى بنية أكثر أصالة تفسرها. هذه هي الفكرة المحورية للنقد الثقافي كما مارسه الحافظ والجابري، مسؤوليتنا تجاه الهزيمة، مسؤولية تجد جذورها في طريقة فهمنا للعالم وتفسيرنا له وتعاملنا معه. هذه المسؤولية هي أيضاً وعد بالحرية وبقدرتنا على تجاوز الهزيمة.
قد يختلف المرء مع الحافظ أو الجابري في ما يقترحانه، هما اللذان يختلفان في ما بينهما أيضاً، وإن جمعهما رهان العقلانية. ويمكن لنا اليوم التأكيد على عدم وجود تصور حقيقي حول كيفية الخروج من واقع الهزيمة، وقد جُربت ربما كل الخيارات حتى الآن ولم يحالف النجاح أياً منها. غير أن هذا التباين حول الإستراتيجيات لا يمس النقطة المركزية التي يُؤسس عليها نقد الهزيمة ونقد العقل العربي، وهي مسؤوليتنا عن الهزيمة، مسؤولية ثقافتنا ووعينا عن سلوكنا، الذي أدى إلى الهزيمة، تماماً مثل مسؤولية المريض عن سلوكه عنما قرر الذهاب إلى كاتب الرقى والتعاويذ عوضاً عن الطبيب.
يغيب سؤال العقلانية في الكثير من نقد الثقافوية المعاصر، والذي كان السؤال المركزي في نقد الهزيمة، على رغم أن الحال لم يتغير من حيث غياب العقلانية في السلوك السياسي للنخب العربية. لنأخذ مثلاً إحدى الأماني السياسية الرائجة لدينا والمقدمة باعتبارها مشروعاً سياسياً. من جهة نريد بناء جيش قوي وقادر على خوض الحروب والانتصار فيها وتحرير أراضينا المحتلة، ولكننا في الوقت ذاته نرفض الدولة الحديثة ونبحث عن بديل آخر لها في تراثنا، أو بالأحرى في ما نتخيله تراثنا، وبهذا نتناسى أن الدولة الحديثة هي المؤسسة التي ظهرت وتطورت أساساً لخدمة الحرب والانتصار فيها. الجيش الحديث يحتاج لموارد اقتصادية واسعة لخدمته وصيانته والحفاظ على جاهزيته، وهي موارد هائلة تحتاج إلى «دولة» للقيام عليها. يحتاج الجيش إلى نظام تعليمي موحد وجيد ليخرّج أفراداً مؤهلين للخدمة فيه والتعامل مع أسلحته وخططه والتصرف كجماعة واحدة، وأيضاً لخدمة القاعدة الاقتصادية والتقنية لهذا الجيش. خدمة الجيش وقاعدته الاقتصادية والتعليمية تقتضي جهازاً بيروقراطياً كفوءاً وواسعاً. غير أننا نريد الجيش وحسب من دون الدولة التي تجعل هذا الجيش ممكناً.
الأماني السياسية، والتي ترغب في أشياء متناقضة ولا تهتم بتأمين الشروط الضرورية لتحقيق ما تريده، تدلل على أننا ما زلنا دون مستوى العقلانية التي كانت الأصل والمنتهى في نقد الحافظ والجابري وغيرهما من نقاد الهزيمة.
* كاتب سوري
الحياة