نقد الثورة بما هو صنع نظرية لها: يوسف فخر الدين
يوسف فخر الدين *
في مواجهة العنف السلطوي الدموي اندفعت الثورة السورية إلى العسكرة في محاولة للدفاع عن الذات، وبدأ ذلك من خلال انشقاق العسكريين الذين رفضوا تنفيذ الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين، لينضم إليهم مدنيون فقدوا إيمانهم بإمكانية الوصول إلى مطالبهم من خلال النضال السلمي. وكان لتجذر الثورة أن فتح أفاقاً غير مسبوقة خلال عهد حكم الأسدين، فقطاعات اجتماعية واسعة لم يسبق لها المشاركة السياسية تحركت بغية انتزاع هذا الحق. وكانت الثورة في امتدادها ولادة جديدة على كل الصعد، سحبت فيها القطاعات الاجتماعية المتقدمة بتفان، وفدائية، القطاعات المتراخية لتنتشر طاقة الحركة والرغبة في التغيير في أعضاء جسد وصل إلى حافة الموت السريري. وقد جرى ذلك بالتدريج، وضمن مروحة من الأسباب المتباينة، كانت قناعة الناس بأن الوضع لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه المشترك الأساسي بينها؛ فمن الساعين للتغيير على أمل الوصول لدولة مدنية ديمقراطية تفتح باب المنافسة بتحفيز من طموح بالارتقاء الطبقي متناسب مع الانفتاح الاقتصادي، إلى الغاضبين من وطأته عليهم، وصولاً إلى من أخرجهم الموت المعمم عن صمتهم. مزيد من القطاعات الاجتماعية انشقت تباعاً عن نظام شمولي كلما وصلت إلى قناعة أنها لم تعد تستطيع احتمال تطرفه في استغلالها وقمعها، وأنه ليس النظام الطبيعي لوجودها وليس قدراً محتوماً لا مهرب منه كما كانت تعتقد. وبالرغم من استحالة الادعاء بأنه ما كان للناس أن يصلوا إلى الانشقاق في ظروف ولأسباب أخرى، إلا أن ما حصل هو أن الكثير من بينهم فعل ذلك بتحريض من المعالجة الدموية والتمييزية للنظام.
كانت طبيعة نظام الحكم في سورية، أهم ما ميز مصير الثورة السورية عن بقية الثورات العربية؛ فمجموعة المطالب التي انطلقت الثورة منها تتشابه مع تلك التي طالب بها المتظاهرون في بلدان الربيع العربي، وما النتيجة المختلفة إلا نتيجة لاختلاف بنية السلطة الحاكمة والعلاقة التي تربطها بحواملها. فبينما مالت النظم السياسية الحاكمة في الدول الأخرى إلى التخلي عن رؤوسها وبطانتهم ظهر مبكراً في سورية أن هيكل نظامها السياسي ربط مصيره بمصير رأسه. ومع بدء إعلان شخصيات مؤثرة في السلطة القديمة عن أن معركتها كربلائية، يكون الخطاب المضمر قد أعلن عن نفسه لفظاً بعد أن فعل ذلك لزمن طويل من خلال السلوك. وهو ما يكشف إحدى مشكلات الثورة السورية التي عرفت تشنجاً ضمن أوساط من نخبتها الثقافية والسياسية المعارضة في ما يخص التعامل مع المسألة الطائفية، الأمر الذي وصل حد الإنكار، بينما كانت الوقائع تسير عكس ذلك باتجاه الفرز على أساس طائفي كلما تمنعت أقليات عن الدخول في الثورة، أو إظهار التعاطف مع حاضنتها الاجتماعية التي تُسحق، أو شارك منتمون إليها بحماسة في قمعها. وهو ما أدى إلى قصور في الوعي العام عملت على تعبئته قوى وشخصيات طائفية، بينما تلهى الكثيرون من أوساط المعارضة بلوك المطالب الغربية بتطمين الأقليات. وتبين مع الوقت أن طول أمد الصراع يتيح للمشكلة الطائفية أن تتنامى باضطراد مع ضعف بقية عناصر شبكة الأمان لسلطة الاستبداد من جهوية وعشائرية، ومع تزايد اتكاء المعارضة على المكون العسكري الأقل عقلانية وانضباطاً من بقية مكونات الثورة الأخرى. وعلى مشارف انتقال الحرب الأهلية إلى طور طائفي يعود السؤال عن قدرة قوى الثورة المدنية الديمقراطية على التأثير فيه، الأمر الذي سيحدد مصير البلد أكثر من أي شيء آخر.
كشف المستور
على مشارف اكتمال العام الثاني للثورة السورية يصبح من الواضح إلى أي مدى كشفت الثورة الداخل السوري كله، وليس فقط النظام السياسي فيه. فاتساع الصراع ليشمل أغلب الأراضي السورية، وامتداد سيطرة المكون العسكري ليتحول إلى سلطة أمر واقع على مساحات معتبرة، وضع على الطاولة موضوع الحكم وسبله قبل أن يسقط النظام وتحت ضغطه. وهو ما يؤثر بشكل مباشر في العلاقات الأهلية المنهكة بضربات سلطة الاستبداد، وفي ثقافتها التي كانت من ضمانات ضبط المنازعات الطائفية؛ ويجعلها في مواجهة القوى الجديدة الناشئة شبه وحيدة تبحث عن سبيل للحد من تطرفها في مكان، والتأقلم مع الأكثر اعتدالاً للشراكة في إدارة مناطقها في مكان آخر؛ في غياب شبه كامل في مواقع كثيرة للقوى المدنية الديمقراطية، ليس فقط مادياً وإنما أيضاً كأثر ثقافي. ويرد ذلك في الأغلب لكون الثورة قد فاجأت النخب السورية أثناء تصفية الحساب مع أساطيرها الإيديولوجية، من دون أن تكون قد طرحت أفكاراً جديدة قادرة على التحول إلى مشروع مفهوم من عامة الناس يمكن لهم تبنيه والعمل على هداه. فالحديث عن دولة مدنية ديمقراطية لا يعني شيئاً محدداً بذاته للعموم، وإن كان يصلح لبناء توافقات بين القوى السياسية. ولعل مرد ذلك إلى تركيز المعارضة العلمانية على إيجاد نقاط مشتركة بينها وبين المعارضة الإسلامية تتيح إسقاط النظام الحاكم، وإعطاءها هذه المهمة الأولوية على ما عداها بعد أن يئست من إمكانية إعادة بناء وشائج بينها وبين المجتمع في ظل الاستبداد. لذلك لم يكن هناك عند القوى الديمقراطية برنامج عملي منبثق من تصور واضح عن البديل المطلوب، وأدى التركيز على سرعة سقوط النظام في زمن الثورة إلى استمرار إهمال إنتاج مثل هذا البرنامج. وحتى عندما تبين أن النظام لن يسقط بسرعة، وفي الوقت الذي بدأ سؤال الحكم يبرز في ظل سلطة المكون العسكري على مناطق تتسع باضطراد، لم تقدم النخبة الديمقراطية برنامجها للبناء، ولم تسعف مبادرات محدودة التأثير طرحت المجالس المحلية في ردم هذه الهوة، كونها لم تكن جزءاً من رؤية متكاملة عن نظام الحكم الذي يفترض أن المجالس جزء منه ليصبح في متناول الناس «أفكار تأسيسية» عما ينوون الشروع بصنعه. وهو الغياب الذي بدأ منذ أشهر يظهر ثقيلاً، بعد أن اعتبره منظرون بارزون في الثورة ميزة وتغنوا به، بينما ثبت أنه قصور خاص بهم في حين كان إسلاميون يشيعون شعارات وأفكاراً حول الحكم الإسلاميّ.
تحاول كل الأطراف في سوريا الإيحاء بأنها تريد السير إلى النهاية بالعنفوان نفسه، وهذه هي حال القوى الإقليمية التي تؤيد كل منها طرفاً في الصراع كونها تجد فيه تحدياً سينعكس بشكل مباشر على مصيرها. مجريات الأمور حتى الآن تقول إنها ستفعل، ويمكن التدليل على ذلك من وقائع مثل تدريب الإيرانيين لميليشيا طائفية على حرب المدن، وهو ما أصبح يصرح عنه في أوساط الحكم في إيران، ومن الواضح أن من انتقل لاستخدام صواريخ السكود لا يفعل ذلك كدليل على حسن نواياه تجاه ادعائه الموافقة على الحوار؛ كما يبقى الاستمرار في اعتقال الناشطين المدنيين مقياساً لا يخيب لتوقع نوايا السلطة الحاكمة. وإلى حد بعيد – كما في كل مكان – تستمد المقاومة شرعيتها وإيمان جمهورها بها من تصلب خصمها ودمويته، وهو العامل الذي لم يخب يوماً في صراع تناحري في أحد طرفيه قوة غاشمة تمتلك كل الأسباب التي تجعلها تعتقد أن عدم استمرار الوضع الذي سبق الثورة عليها يعني هزيمتها بالمطلق. وفي هذه الحالة تكون الدعوة إلى الحوار (وما سيتبعها من أفكار حول «بناء الثقة» وما يشبه ذلك) مكملاً للصراع يختاره من يظن أنه سيصب في مصلحته. وهو ما يفسر تقلب الموقف من الحوار بين أوساط من السلطة وأخرى من المعارضة، وفق تغير التوقعات منه بتغير المعطيات في جغرافيا الصراع؛ وبالارتباط مع تغير التوقعات من الموقف الدولي. ومن جانب آخر، وطالما أن القوى المهيمنة في طرفي النزاع لا زالت تمتلك نوايا السير إلى الأمام في الصراع المسلح، مدعومة من أطراف إقليمية تعتبره منعطفاً في مصيرها الخاص، تزداد أهمية البحث في التحولات الجارية في المجتمع وفي السلطة (القديمة منها والجديدة)؛ بغية استشراف مآل الصراع، وفي محاولة لوضع حزمة توقعات لما بعده، علّ ذلك يساعد في التقليل من المشكلات لاحقاً حين يتيح خريطة للعمل الممكن لتجنبها، أو التقليل منها، وبدء بناء الجديد. وهو ما يحتاج إلى جهود مجموعات عمل بحثية على غير صعيد، ولا يشكل جهدنا في هذا الصدد أكثر من إسهام في الدعوة إلى العمل مع بعض من تلمس لمكونات واقع يصعب على جهد فردي الإحاطة به. ووفق هذا المنهج يتجاوز معنى «نقد الثورة» الحديث عن أخطاء القوى الثورية، إلى وضع هذه الأخطاء في مكانها على لوحة الصراع، بحيث تكون تعبيراً عن تطوره واحتدامه ووعي المصالح الناشئة فيه. هكذا تظهر التفاصيل بما هي مكونات للمشهد العام، وليست هوامش يمكن تجاوزها إلى حين؛ ويجدر بنا أن نضم إليها للدرس تلك التي يمكن اعتبارها عوارض جانبية، طالما أننا ندرك أن لا شيء ينتج من عدم أو يذهب إليه؛ وطالما أننا نعلم أن حيوية الصراعات تتيح تحول الثانوي إلى رئيسي، ومثالنا الأبرز الإسلام الجهادي الذي يتنامى باضطراد كلما زُج بمساحات أكثر من الأرض والناس في الصراع المسلح.
أمام هذه الضرورة يصبح من مهمة المثقف الثوري تجاوز مهمة التوصيف والتبرير إلى النقد المعني بالتفسير؛ ومنه تفسير سبب عجز القوى المكونة للثورة والقطاعات الاجتماعية التي تعبر عنها عن تنظيم نفسها حتى الآن، والاضطراب الحاصل من محاولتها فعل ذلك. ولا نقصد بتجاوز التوصيف القطيعة، إنما الارتقاء إلى مستوى تحدي النقد والتفسير في سياق بناء نظرية للثورة، وفي ظلها، تتضمن خطة عمل لاستكمالها إن على مستوى هدم القديم أو بناء الجديد.
* كاتب سوري
الحياة