«نقد النقد» بين الأدبي والثقافي… مناكدة أم مساندة؟/ نادية هناوي سعدون
كثيرا ما أثيرت إشكالية الخوض في أحقية من يمتلك هرمية الفاعلية النقدية في مرحلتها المعاصرة أو الراهنة، أهي للنقد الأدبي أم للنقد الثقافي، كما شغل التمييز بين النقدين اهتمام النقاد، ومنهم الناقد والروائي نبيل سليمان.
ففي مقالة نقدية له بعنوان «مواصلة النقاش حول النقد والفلسفة وصال أم فصال؟» عقَّب على طرح للناقد حاتم الصكر، كان فيه قد جزم برفض علاقة النقد الأدبي بالفلسفة والتفلسف، عاداً النقد الثقافي نقدا رجعيا و»أن التفلسف لا يناسب المتون المبنية على المخيلة والعاطفة»، وأن»المنطق الأرسطي في القرن الرابع الهجري، حول النقد الأدبي إلى أقيسة منطقية».
سحب الناقد نبيل سليمان الحديث من إطاره الثقافي كأدب ونقد وفلسفة إلى إطار أوسع هو نقد النقد، مبينا أن فحوى الإشكالية تكمن في مدى فاعلية نقد النقد، إزاء النقدين (النقد الأدبي والنقد الثقافي) الأول بجمالياته والثاني بمثاقفاته..واجدا أن فاعلية النقد الثقافي وغواية تأثيره في النقد العربي تكمن في كونه نشاطا وليس مجرد مجال معرفي، مؤكدا أن» العلاقة بين الفلسفة والأدب والنقد كانت وستبقى إشكالية»، ومثّل بنقاد انحازوا في ممارساتهم النقدية إلى الفلسفة، ومنذ زمن سابق بكثير على النقد الثقافي وطروحاته ما بعد الحداثية، ومن هؤلاء شكري عياد ولويس عوض وأنطون مقدسي وعبد الكريم اليافي وأمين صليبا، الذين دللّوا على أن التفلسف النقدي ممكن ومطواع في تمكين الناقد من اقتناص جماليات النصوص.
ونحن نوافق نبيل سليمان في أن النقد الأدبي يغتني بقدر أو بآخر من النقد الثقافي، وألا مناص للنقد الأدبي من أن يتفاعل لا مع الفلسفة وحدها وإنما مع مختلف العلوم الإنسانية.. بمعنى أن الاشتغال على النقد الثقافي ليس فيه زحزحة للنقد الأدبي، كما أن الإقرار بالمثاقفة النقدية لا تعني مصادرة النقد الأدبي أو موته، بل تحصيلا للتبلورات المتمخضة عن مرحلة ما بعد الحداثة.
لذا فإن من المنطقي للتثاقف والحوارية التي هي من أهم مقومات هذه المرحلة أن ترى الاحتكام إلى فروع المعرفة كلها كالتاريخ والفلسفة والدين والأنثروبولوجيا والنسوية والإعلام والسياسة والاجتماع واللسانيات والأسطوريات، وغيرها من فروع الثقافة وميادينها ليس عيبا ولا نقيصة، كما أنه ليس تعاليا أو تمويها، بل هو ضرورة تفرضها تبدلات الحياة وتطوراتها، وتقتضيها كذلك حتمية التعاطي ما بعد الحداثي مع الإبداع الأدبي بكل صنوفه وأشكاله.
وهذا هو عين ما ذهب إليه الناقد الغذامي، الذي أكد مرارا ألا تقاطع بين الأدب والثقافة والنقد، ورأى «أن النقد الثقافي لن يكون إلغاء للنقد الأدبي، بل أنه سيعتمد اعتمادا جوهريا على المنجز المنهجي الإجرائي للنقد الادبي» كتابه «نقد ثقافي أم نقد أدبي». وإذا كان الغذامي باجتراحه مفاهيم التورية الثقافية والمؤلف المزدوج والعنصر النسقي وغيرها، قد برهن على ضرورة النقد الثقافي؛ إلا إنه قصر فاعلية النقد الثقافي على الخطاب والمؤلف بوصفهما طرفين في المعادلة النقدية.. وهنا نتساءل ماذا عن القارئ؟ أليس له وجود في هذه الاجتراحية المفاهيمية الممهدة والمروّجة للنقد الثقافي؟ ألا نركن إليه ونحن ننحو بممارساتنا الأدبية والجمالية باتجاه معرفي يأخذ من الفلسفي والتاريخي والأنثروبولوجي وغيره؟
ومما لا شك فيه أن مرحلة ما بعد الحداثة لم تجعل القارئ مجرد قطب في معادلة ثنائية تقوم على النص والمؤلف فقط، بل هي معادلة ثلاثية الأقطاب وهذا ما كان رولان بارت قد أججّه وأسّس له، عندما أعلن أن هذا العصر عصر القارئ وليس عصر النص أو عصر المؤلف.
وصار من تبعات ذلك التأجيج والانتهاج والتمأسس، أن يقع على عاتق المشتغل في الحقل النقدي ضرورة الاعتراف بهذا القارئ كطرف فاعل ومؤثر، ونقول إنه مشتغل ولا نقول إنه ناقد، انطلاقا من الإقرار بأن القارئ المتلقي هو ناقد أيضا هاويا كان أم محترفا، وما من منهجية إجرائية أو متصورات نظرية إلا وتصب في بوتقة القارئ الناقد، معطية له موقعه الحقيقي متحصلة منه ـ وليس له ـ مختلف العوائد والمخرجات. وبذلك تتأكد الأهمية التي تنطوي عليها غائية النقد الثقافي ومقصدية الدمج المنهجي والتداخل المعرفي بين النقد والمعارف الأخرى، كاستتباع منطقي لنظريات الانفتاح والتداخل الإجناسي وضرورة التماهي في الحدود بين الأنواع الأدبية بعضها ببعض.
وهكذا صرنا نتثاقف عن قصد أو لا قصد، ممارسين الفاعلية النقدية أدبيا وثقافيا معا، في محاولة لاقتناص مزيد من جماليات النص المنقود وخفاياه مدللين بذلك على النقد الثقافي إجرائيا، قبل أن نتبناه تنظيريا بممهداته الرؤيوية وتمظهراته المفاهيمية. وهذا أمر طبيعي إذا علمنا أن الظواهر الفنية إنما تحدث أولا، ثم يتم بعد ذلك تأطيرها بشكل نظري معين، ليتم آخرا تحصيل التصورات المبدئية حولها والتأشير على اصطلاحاتها. وبإعلاء دور القارئ الناقد تتضح أهمية نقد النقد كوظائفية ثالثة لا هجينة ولا بديلة، ولا هي افتراضية تصادر أو تستلب، وإنما هي أحقية نقد على نقد أو نقود، وهذا ما ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا ونحن بصدد إشكالية التعاطي مع هذين النقدين (النقد الأدبي والنقد الثقافي) كون المسألة ـ كما أشرت ـ لها صلة بالقارئ الذي هو أساس هذه الإشكالية ومفتاحها ولبها أيضا. والقارئ المقصود هنا ليس القارئ المعتاد، وإنما القارئ الحاذق والمتفاعل الذي يثـــير الأسئلة ولا يريد أجوبة، والذي يقف للناقد ندا لا تلميذا والساعي لأن يتقرى لا أن يُلقن.
وارتهان الفاعلية النقدية بالقارئ تقتضي منه أيضا أن يشارك الناقد في مرجعياته وأدواته، لأن الخطاب النقدي موجه إليه لكي يتفاعل معه، فيكشف مثلا عن مضمراته مثلما يعرف تمظهراته، ويدرك أن في الأسباب تكمن النتائج، وأن من العلل تتضح المعالجات، وأن في المثاقفة مناقدة.. وبهذا تصبح الذات القارئة ذاتا إبداعية تكافئ ذات الناقد لكنها لا تواطئه وتشاركه النقد إلا إنها لا تنداح في متحصلاته.
ومثلما أن الشعر نكد كما يقول ابن رشيق، فإن النقد سيكون نكدا ومناكدة كون القارئ ما عاد متطامنا مع الناقد مستقبلا ومتلقيا لما هو جاهز ونهائي، وإنما هو في حالة كشف عن الخفي وتمحيص لما هو معمي يتمركز حول ما همشه خطاب الناقد وأهمله، أو بالعكس يهمش ما استحضره الناقد في خطابه وركّز عليه. وبالمناكدة تصبح للقارئ مركزيته، كما أن للناقد مركزيته أيضا، ولا يعود وجودهما مقتضيا التعادل، بل هما يتنازعان الهيمنة النقدية متفاعلين بقصد الاستبداد ومتشاركين بغية تجيير النقد لصالح واحد منهما.
وعلى الرغم من أن في هذا فعل تنافس في الممارسة، إلا إنه ينطوي على تشارك وحوار ومثاقفة فالناقد ينقد قصيدة ما والقارئ يتربص بالناقد، وهو يحاول إظهار قدراته القرائية أدبيا وثقافيا، وبهذا تتجلى خطورة نقد النقد وفاعليته الوظائفية التي يظن بعضهم أنها تنحصر في المراجعة التي يقوم بها ناقد ما، وهو إزاء ناقد ثان والحقيقة غير ذلك البتة، فنقد النقد احتراب وتحزب، وهو معالجة وحوار ومناقشة وتشخيص ورصد وتحليل وتعقيب وتداخل وامتزاج وتعالق واستعادة واستزادة.
أما موت نقد وولادة آخر مكانه أو تقاعد طرف نقدي وصنمية قطب مكانه؛ فإنما ذلك من قبيل النظر الأحادي لعطاء نقد على حساب آخر، أو تمايز طرف وأفضليته على أطراف أخر، بناء على اصطفاء لمنهج على غيره أو لنقد دون نقد.
وليس تجيير الثقافة لصالح النقد اغتصابا للأنساق الجمالية، كما أن تجيير الجمالية لصالح النقد ليس فيه انتهاك للنسقية الثقافية، فلولا المثاقفة ما عرفنا فاعلية الجنوسة والنسوية والجندر والآخر والأنا والتاريخ والذاكرة والسيكولوجيا والهوية والانتماء في بلورة الجمالي داخل النص الأدبي، كما أن تجاوزنا لأحادية المناهج في إجرائيتها لن يعني تنازلنا عن الجمالية التي سنضيف إليها تمازجا رؤيويا بغية الظفر بمنهجية تكاملية. وهذا يعني أن لا النقد الادبي استنفد نظرياته وأدواته ولا النقد الثقافي قد أخفق في تأدية وظائفه ومهماته، والسبب أن هناك نقدا ثالثا هو نقد النقد، أو ما بعد النقد سيظل يشتغل دوما على النقدين الأدبي والثقافي، وهو ما كان الناقد نبيل سليمان قد أكده في مختلف كتاباته ومؤلفاته، ومنها مقالته التي أشرنا إليها سابقا. وما الحديث عن علائقية النقد الادبي بالنقد الثقافي وما تحمله تلك العلائقية من معاني التكاملية المنهجية والتعددية المعرفية، إلا سجال لن يبرح أن يتجدد ويتوالد كإشكالية، إلا إذا كان نقد النقد حاضرا، يُرتكن إليه ويؤخذ به في عائدية فاعليته وأولوية معطياته. ولا غرو أن دعاة النقد الأدبي ودعاة النقد الثقافي يؤمنون ببعض من هذا النقد وينكرون بعضا منه، لكنهم جميعا يتفقون أن طائلة هذين النقدين مقرونة بفاعلية نقد النقد.
ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إن هرمية العملية النقدية ستتحقق في الفاعلية النقد نقدية، أو الميتا نقدية من منطلق أن التراتبية في الحقل النقدي ما عادت مرتهنة بالأدبية، أو الثقافية، وإنما هي متوقفة على طبيعة الأدوار التي توكل للقراء بوصفهم نقادا لا متلقين يسهمون في تشكيل النص النقدي، سواء في مشاركتهم الناقد في البحث عن أنساق النص المنقود المعلنة، أو المضمرة أو في استدلالهم على جمالية النص وأدبيته التي يبدع الناقد نصه في ظلها مشتغلا عليها لوحدها.
ناقدة وأكاديمية من العراق
القدس العربي