نكبة في مخيم اليرموك/ نزار السهلي
لم تتسع سنوات النكبة التي مضت لكآبة الفلسطيني في مخيم اليرموك في سورية، ولا لأحزانه الموزعة على قراه وسهوله، في الجليل والمثلث والنقب والقدس والأغوار، كلها كانت بالنسبة إليه وطناً يحمله في شتاته، صعتراً وزيتوناً وبرتقالاً وعنباً وميرمية وزيزفون، يتهجأ أطفاله في نطقهم الأول اسم فلسطين، وتطلق حناجرهم سيمفونية العودة، والتمسك بأرضها.
دخلت النكبة عقدها السابع، وتناسلت منها عدة نكبات وهزائم عربية وفلسطينية، وتوالدت في ثناياها تداعيات في مخيلة اللاجئ في مخيم اليرموك، من سطوٍ على الأرض والتاريخ والتراث إلى تدمير المخيم اليوم، أقرب إلى الحلم الممنوع في ركوب زورق الحنين، ونشاز العزف المتواصل على نكبته المتناسلة جثثاً، من جوع وموت “غامض التصريح”، وحصار تنبري له شعارات تطرق عاطفته الطرية، لترسم له وطناً من فجيعة ولوعة، تنتقل معه من عاصمة عربية شقيقة إلى أخرى، زادت شقاءه، تُطلق العواصم ظاهر شعارها المتضامن معه، وتستل من فاشية قوانينها خنجراً بطول عشرين عاصمة عربية.
هنا مخيم اليرموك، من شارع صفد إلى لوبية والجاعونة ويازور وطبريا وعطا الزير وأم الفحم والناصرة والكرمل والجرمق وترشيحا، وكل قرية وخربة، كتبت على شاخصات الأزقة المتهاوية، تتناسل منه اختصارات النكبة الأولى والأحلام “الأبدية”، والأحلام المستحيلة إلى موت من جوع. ما الذي يعنيه “اليرموك” عند ركام الجثث من دون المنكوبين الطارقين أبواب العواصم الموصدة. مكتباتهم المترامية والمحترقة بقذائف النكبة كانت مفتوحة على قصص غسان كنفاني، وهم يطلقون العنان لحناجرهم التي تصدح يا غسان لم نقرع جدران الخزان فقط، بل حطمنا الجدران، وأسقطنا شعارات حصارنا رجالك تحت الشمس باتوا جثثا متفحمة في اليرموك. ورسائل محمود درويش وسميح القاسم في اليرموك تسأل “ماذا سيبقى من سراب الحلم، ماذا سيبقى من لقاء الشيء باللاشيء. هاوية من خيط ودخان”، وجبرا يذيع بيان بحثه عن وليد مسعود، وناجي العلي يرسم فاطمة تحيط بها جدران الاغتصاب والإذلال، وأبو العبد يجر خيباته.
“كواشين” الأرض تحت الركام في اليرموك، ومفاتيح الديار انكسرت وانصهرت من صدأ وقذيفة، فأي ذكرى للنكبة الأولى، يحفظها أهل هذا المخيم في حقيبة الذاكرة النازفة. أي بيانات ينصت إليها المنكوبون فيه، من فصائل وقوى فلسطينية وعربية، وأية بيانات عن الأرض والصمود والسياسة وفلسطين … .
كل رضيع وطفل وامرأة وفتاة ورجل وشيخ في اليرموك، أو منه، تناسل من النكبة الأولى،
ومثل جيلاً جديداً منها، يصعب فهمه وإدراكه، إلا إذا عشت معه تفاصيل نكبته، قبل الاحتفاء ببلوغ العقد السابع من النكبة، ليروي لك خارج بيانات التضامن معه، وفي منأى عن شعارات التكلس الأخلاقي، وكتابات الخيانة والخديعة الثقافية، عن فوارق نسل النكبة لليرموك.
في الأولى، كان التوزع الجغرافي في “بلدان الطوق” وفي نسخة مخيم اليرموك ونسله المنكوب وصل إلى أصقاع الأرض الأربع، وفي سنوات النكبة، كلها أصدر الاحتلال قوانينه الفاشية والعنصرية ضد سكان البلاد الأصليين، يعمم النظام العربي لابن النكبة، اليوم، قوانين تتفوق بعنصريتها على “العدو”.
في اليرموك ودرعا والنيرب وحندرات والعائدين وجرمانا وخان الشيح ودنون، وكل بقاع النكبة التي حملتها البحار، كبقعة زيت، وجب التخلص منها، يهيم أصحابها منفلتين من نسل نُسب إليهم عنوةً وظلماً، وهم يستعيدون فاجعتهم في معاني الخذلان الحقيقي في الطرق، مجدداً على جثثهم، من نخب سياسية وثقافية ومجتمعية، تستعير دور النظام العربي لرعاية نسل النكبة، في دور الرعاية القذرة التي خصصها الحاكم، شماعة يعلق عليها الفلسطيني المقهور كل أوجه الفشل الذي ساهم، ودُفع ليساهم به، النظام العربي، كأسهل الطرق للإجابة عن انتكاساته، وفشله، في إدارة مجتمعاته، فالأسهل حمل معوله الفاشي والهزلي والشعاراتي “حمايةً للاجئ ولقضيته من التصفية” نرحب بك بعيداً عنا، ونتمنى لك الموت بعيداً عنا. لكن، دع لنا نكبتك نرعاها، ونحفظ شبابها، ونحن ننفخ فيها نسلاً متجدداً يقينا خطرك المحيط بعارنا.
العربي الجديد