صفحات الرأي

نكوص فكري في زمن التغيير الجذري/ هيفاء أحمد الجندي

بعد دخول الثورة السورية مرحلة الاستعصاء، والمراوحة، وتحولها إلى ما يشبه الحرب الأهلية، وانتشار الفوضى، وتصدر داعش وبعض الكتائب الاسلامية المشهد، بعدما خطفت الثورة من فاعليها المدنيين والديموقراطيين… اجتاحت بعض المثقفين اليساريين خصوصاً حالة نوستالجيا لحقبة كمثل فترة حكم عبد الناصر، أو ما أطلقوا عليها مرحلة الاستقلال الوطني (مع كامل التحفظ على هذه التسمية). وإن دلّ هذا على شيء، إنما يدل على حال من التخبط، وغياب الموقف النقدي التاريخي من تلك الحقبات وتجاربها. وهذا الارتداد أو «الحنين»، يضمر عداء للثورات وللتغيير الجذري، تحت مسمى «المسألة الوطنية». واللافت في الموضوع، أن هذا النكوص أتى في مرحلة تاريخية تشهد ثورات ديموقراطية، وتغييراً جذرياً قاعدياً. وكان من المفترض أن تسعفهم ماركسيتهم قبل أي شيء في إدراك أن الثورة المضادة، وما نشهده من فوضى راهنة، ليستا إلا مرحلة طبيعية تعيشها الثورات.

والمتابع لتاريخ الثورات عموماً سوف يلحظ أن ما من ثورة إلا وانقلبت حرباً أهلية، واعترى مسارها التعثر، والتراجع، وانقلابات دموية. فما بالكم إذا اندلعت الثورات في بلدان كبلداننا، تتسم بالتطور المركب، حيث تتداخل فيها البنى والفئات الاجتماعية القديمة مع نوع حديث من التراتبية الاجتماعية.

على كل حال، وبالعودة إلى ذاك «الحنين»، من الاجحاف أن نطلق مسمى المرحلة الذهبية على أنظمة تولت مقاليد الحكم عبر انقلابات عسكرية، وكانت معبرة عن جمهور الريفيين والفلاحين، أي أشبه بـ»بونابرتية قومية»، عززت القبضة الأمنية، والتفّت على مسألة الديموقراطية. فيما انجازاتها لم تتعدّ مسألة التأميم والاصلاح الزراعي. ولم يكن الشعب مصدر السلطات، ولم تسمح له بأي دور فاعل، ورقابي، في الحياة السياسية والاقتصادية، ولم تكن ديموقراطية، بالرغم من شعبيتها. بمعنى، أن الجمهور اصطف وراءها من دون أن تتاح له المشاركة بصنع القرار.

وأتت هزيمة حزيران 1967، لتعري نواقص هذه التجربة المتحققة، إذ لم تكن هزيمة سياسية أو عسكرية وحسب، بقدر ما كانت هزيمة لمجتمع، ببنيته المتخلفة، ووعيه التقليدي، على حد ما ذهب إليه المفكران صادق جلال العظم وياسين الحافظ، بنقدهما لهذه المرحلة والبنية.

إذاً، وقعت الهزيمة، لتبرهن أن الدولة القومية تبنيها الشعوب وتتجذر بالديموقراطية والوعي الحديث، وهذا ما فشلت فيه أنظمة الاستثناء العربي. فشلت في بناء الدولة القومية المنشودة بسبب طبيعتها الاقصائية وصيرورتها كطبقة متحولة متبدلة، يمكن – وبلحظة تاريخية – أن تنقلب على كل ما هو حديث وتقدمي.

إن الديموقراطية، المغيّبة من تجارب الحكم التحديثية، والشعبوية، ستجد حضورها في الانتفاضات الشعبية. ويمكننا القول إن ذاك الشكل من التحديث والإصلاح الأبوي التوجيهي، نما ضمن إطار المشروع البورجوازي، الذي لم يفضِ إلى دمقرطة المجتمع، وإنما قاد إلى تحديث الديكتاتوريات وأعاد إنتاجها.

ما يطلق عليها «مرحلة الاستقلال الوطني» تجاهلت، وعن عمد، البعد الديموقراطي، الضروري من أجل دفع عملية التقدم الوطني الشعبي نحو الامام. وهذا ما يفسّر اليوم تكالب العالم على إجهاض الثورة السورية، وتدخل قوى وأحزاب طائفية. وهي بحكم تركيبتها المغلقة المطلقة، يمكن أن تكون مشروع هيمنة، وفاشية، أكثر منه مشروع تحرر وتغيير وطني ديموقراطي، فلا تسمح للشعب أن يأخذ دوره، بل هي بالأحرى، تقف حجر عثرة أمام نهوضه وتحقيق ديموقراطيته المنشودة.

الاستقلال الحقيقي يبدأ لحظة الثورة على أنظمة الاحتلال الداخلية، المستبدة، التي أعاقت، وعلى امتداد عقود حكمها، قيام حركات تحرر وطنية شعبية. بل هي أجهضت حركات التحرر الديموقراطية واليسارية، فضلاً عن أنها لم تتبنّ مشروع تنمية وطنية، ولم تقدم حلولاً للمشاكل الاقتصادية الاجتماعية.

ان هذه التجارب، التي يحن إليها البعض الآن، بلغت حدودها التاريخية، وبات القطع معها أكثر من ضروري، ويُفترض أن تنهار معها كل القوى التقليدية، اليسارية والناصرية، التي ترعرعت في كنفها. ولا يمكن تفسير هذا الحنين إلا كونه نكوصاً فكرياً، يدرك أصحابه قبل غيرهم أن الإصلاح الفوقي هو الشكل المحدد لفترات حكم وتجارب سياسية. فلو رافق هذا الإصلاح تغيير جذري في بنية التركيب الاقتصادي الاجتماعي، لأثمرت هذه التجارب وتجذرت. بيد أن الدور الأبوي للدولة النظام، أعاق هذا التغيير، وأعاق معه تبلور قوى اجتماعية كان يمكن أن تكون بمثابة حامل اجتماعي ينجز مهمات الإصلاح الديني والثقافي، على غرار ما تم إنجازه في الغرب.

ننهي لنقول، إنهم رهط من المثقفين، ممانعين للديموقراطية وللثورات، بلبوس وطني. إنه حنين مرضي لأنظمة «الاستثناء» العربي، والامتناع الديموقراطي.

كاتبة سورية

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى