صفحات الحوار

نهاد سيريس: أنا مع التغيير الحقيقي لكني أخاف من الثورات


العنف والإذلال خلقا هذا المزاج الثوري الذي نعيشه اليوم

يوسف عكاوي

يمكن القول بلا تردد إن نهاد سيريس كاتب حلبي، ليس بسبب تحدره من تلك المدينة العريقة، وعيشه فيها، بل لأن جل كتابته يبدأ منها، ويدور في فلكها. من «رياح الشمال»، إلى «بنات العشرة»، وحتى رواية «الصمت والصخب»، التي لا تنتمي إلى زمان ومكان واضحين، لكن لن يكون صعباً رؤية تلك المدينة المقهورة بين سطورها. لكن الأكثر شهرة من بين أعماله كان «خان الحرير»، المسلسل التلفزيوني المؤثر الذي روى حقبة من التاريخ السياسي لتلك المدينة، ومن ورائها جزءاً من تاريخ سوريا. شهد سيريس اندلاع الثورة في بلده، لكنه وجد أن عليه، ربما، أن يتحرّر من الضغوط المباشرة، أن يكون على مسافة تساعده على الكتابة ومزيد من التأمل.

÷ أنت من مدينة حلب، وعشت فيها وقتاً من أيام الثورة، كيف تفسر تأخر حلب بالانضمام إلى الثورة؟

} ومن كان يعتقد أن سورية ستثور ضد سلطة آل الأسد قبل آذار 2011؟ لا حلب ولا غير حلب. قبل الثورة كان لبشار الأسد شعبية محترمة، رغم أن الجميع يعلم أن سورية دولة أمنية، وأن الفساد وسرقة البلد شائعان، وأن هناك خطة محكمة لتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد موالٍ، هذا غير الاستئثار السياسي والحزبي. نحن في حلب نعلم جيداً كيف أن الطغمة المالية القريبة والشريكة للنظام والمتحالفة مع الأمن تضع يدها على كل أشكال الاقتصاد، وإن لم تمتلك الكل فإنها تطلب المشاركة لكي تقام المشاريع، ولكن صناعيينا وتجارنا ومزارعينا وافقوا على ذلك لأنه أفضل من لا شيء الذي كان سائداً أيام حافظ الأسد. من هنا يأتي الرضا على النظام في الأوساط الاقتصادية الحلبية، بمن فيهم الحرفيون والعمال بسبب النشاط الاقتصادي الكبير الذي عاشته المدينة قبل آذار 2011. ولكن الشعب السوري في كل المدن والأرياف الذي لم يخطر له أن يثور وهو يشاهد على التلفزيون ثورتي تونس ومصر وتضامن بحق مع التونسيين والمصريين لن يرضى عن هذا العنف الفظيع الذي ارتكبته السلطة منذ البداية والذي خلق ردة فعل ثورية بالتدريج في كل أنحاء سورية. إن العنف والإذلال هما اللذان خلقا هذا المزاج الثوري الذي نعيشه اليوم، وحلب كمدينة متطورة لن تنخرط في الحراك مبكراً بسبب وضعها الاجتماعي والاقتصادي، إلا اذا تأذّت، بل ستتأثر لاحقاً، وبتأثير مباشر مما يحدث في الأرياف القريبة، ويخطئ النظام الآن حين يبدأ بالتعامل معها بالأسلوب العنفي المعهود، لأنها بذلك لن تهتم بخسائرها وستثور ضده.

÷ قبل ذلك هل ثارت حلب حقاً؟

} ثارت حلب في نهاية السبعينيات وتعرضت لضربة أليمة لم تشف منها الا في منتصف التسعينيات، لذلك هي حذرة الآن. على كل حال تلاحظ معي الآن كيف أن حلب تنغمس في الثورة المسلحة بشكل كبير وسوف نسمع قريباً عن دور كبير وخطير للمدينة في الحوادث.

÷ كذلك يجد المرء أن معظم مثقفي حلب هم إما صامتون، أو أنهم أعلنوا صراحة انحيازهم للنظام. كيف تفسر ذلك؟ وعموماً كيف تفسر هذا الانقسام الحاد حول الثورة السورية خصوصاً، عند مثقفين عرب وسوريين؟

} السبب هو الخطاب الممانع والتقدمي والقومي المعتمد من قبل النظام الذي يخفي شيئاً آخر، وبتعبير آخر وجود وجهين متناقضين للنظام نفسه. للنظام وجهان، وجه ناعم ووجه آخر عنيف جداً، بل حتى قاتل. الجميع كان يعلم بالعنف والإذلال المصاحب له اللذين كانا يمارسان ضد المواطنين في أقبية المخابرات وقطعات الجيش، إلا أن التعود على نسيانهما يفيد من أجل الاستمرار في العيش، ويمكن القول إن النظام كان لطيفاً مع المثقفين والفنانين ويسعى للتقرب منهم. لقد كنت شاهداً أكثر من مرة، وبشكل مباشر، على مدى محبة هؤلاء للفنانين خاصة وللمثقفين عامة. ثم إن النظام قدّم تسهيلات كبيرة للفن، وخاصة للدراما التلفزيونية، واهتم بمصالح الفنانين وكانت رموزه تعقد الصداقات معهم، وهناك نسبة كبيرة من العاملين في الميديا هم أقرباء لرجالات السلطة ورجالات الأمن. المثقفون في حلب لا يختلفون عن أمثالهم في دمشق، ولكن بسبب تراجع صوت المدينة الثقافي والفني فإنك لن تسمع عن آرائهم بشكل واضح. أعرف أنك تقصد كاتباً بعينه عمل بعد آذار 2011 على تنفيذ سياسة السلطة. إنه كاتب قدمت له خدمات كبيرة من قبل النظام وعليه الآن أن يرد لها هذه الخدمات والنظام بشكل عام يعمل بهذا الأسلوب.

نجوم الكتابة

÷ هل كنت على تماس بطريقة ما مع الثورة؟ هل انخرطت في مظاهراتها؟ هل لديك مشاهداتك الخاصة عنها؟ ماذا تتذكر من هذه المشاهدات؟ أي صور كانت الأكثر تأثيراً؟

} طبعاً أنا لم أتظاهر، ولكنني أترك نفسي أتفاعل مع الثورة. أبحث عن المشاهدات وأترك نفسي تنفعل، فأنا كاتب وكل مشهد متعلق بالثورة يفيدني ويساعدني. إنني أحاول أن أفهم ما يجري. إنني في العادة مع التغيير، التغيير الكبير والحقيقي ولكنني أخاف من الثورات. هذا لا يعني انني ضد هذه الثورة بل بالعكس، ولكنني كنت أود ان يجري التغيير سلمياً، وهذا ما كنا نسعى اليه حين انخرطنا في الحراك المدني قبل أكثر من عشر سنوات وتم قمعنا وتحطيم ممتلكات بعضنا من قبل السلطة الأمنية. انني مأخوذ مثلاً بمشاهد تلفظ بعض المتظاهرين (الثوار) لأنفاسهم الأخيرة بعد أن يكونوا قد تلقوا الرصاصات القاتلة. إنهم يموتون بهدوء ودائماً هناك من يطلبون منهم التلفظ بالشهادتين بهدوء عجيب أيضاً. إنني أرصد الخوف وهو يندثر ويتحول القتل أو التهديد بالقتل الى دافعين للثورة وليس محبطين لها.

÷ كيف غيرت في عاداتك الكتابية؟ هل كتبت عن الثورة؟ هل أملت عليك موضوعات وأفكاراً للكتابة الإبداعية؟

} تعطلت الكتابة الابداعية اليوم. ليس عندي فقط بل عند الكثيرين من الكتاب. الخيال تراجع لمصلحة الواقع الملموس. إن نجوم الكتابة اليوم هم كتاب المقالات عن «الأحداث السورية» ثم «الأزمة السورية» وأخيراً عن «الثورة السورية». أصبح الناس يفضلون أيضاً قراءة البوستات على الفيس بوك وآخر خبر أو اشاعة عن قراءة قصة حتى لو كان موضوعها عن الثورة. الناس قلقون على البلد، على الواقع. إنهم يهرعون لقراءة أي مقالة تحلل أو تفسر ما يجري، والأفضل أن تكون مختصرة وتلقي الضوء عما يجري. لقد قمت بكتابة قصص وحواريات عدة قصيرة عن الثورة وقمت بنشر بعضها هنا في مصر، وعندما رفعت واحدة أو اثنتين منهما الى الفيس بوك لاحظت أن الوقت ليس للخيال بل للكلام التحليلي والإخباري. ثم إن الأمر يتعلق بي شخصياً فذهني متعلق الآن بآخر خبر ومحاولة فهم ما يجري والتنبؤ بما سيجري أكثر من الصياغة الأدبية أو الفنية.

رواية الاستبداد

÷ كيف تنظر اليوم إلى منجزك الأدبي في ظل الثورة؟ كيف تنظر إلى روايتك «الصمت والصخب» على وجه التحديد وهي الرواية المكتوبة عن الاستبداد؟

} أعتقد أنني ساهمت، ولو بشكل متواضع، ببناء الوعي بالواقع الذي كان سائداً قبل الثورة والدفع من أجل التغيير. كل أعمالي الأدبية والدرامية تعمل على إيقاظ الوعي عند المواطن العربي وخاصة السوري وتنبيهه إلى رياح التغيير. من «رواية رياح الشمال»، التي من عنوانها تعرف انها تتحدث عن رياح التغيير حتى آخر دراما تلفزيونية كتبتها عن جبران خليل جبران. خذ مثلاً مسلسل «خان الحرير» إنه ليس فقط قصة لطيفة بطلتها مدينة حلب واللهجة الحلبية وغيرها.. بل حاول المسلسل أن يزرع الحنين الى الماضي الديموقراطي لسورية في الخمسينيات. لقد أحب الناس هذا المسلسل لأنه ذكرهم بتلك الأيام الذهبية بينما يعرف وعيهم أي واقع سياسي يعيشون. الشيء نفسه يمكن قوله عن الأعمال الأخرى كـ «الثريا» الذي رصد تفتح الوعي بالذات وبالاخرين في سورية حين تشكلها الحديث. ثم هناك رواية «الصمت والصخب» التي كتبتها بعد أن انهار مشروع إحياء المجتمع المدني على يد النظام، حيث رصدت ظاهرة الاستبداد ووصّفته وتساءلت عن منبته وقمت عن قصد بالسخرية من الديكتاتور حتى أشارك في رفع هالة التبجيل عنه ومن ثم إسقاطه. كان نشر هذه الرواية عملية محفوفة بالمخاطر، ولكنني لم آبه بذلك فهذا دوري ككاتب، حتى أن العديدين ممن قرأوا هذه الرواية شعروا بجرأتها وتساءل أحد الديبلوماسيين الذين يجيدون القراءة بالعربية عمّا اذا كان رجال السلطة يقرأون الأدب في سورية! ولكنني لم أتقدم بها الى دور النشر السورية التي كان عليها أن تحصل على الموافقة أولاً بل أرسلتها مباشرة الى «دار الآداب» التي نشرتها من دون تردد.

÷ إنها رواية مكتوبة من دون الإشارة إلى مكان وزمان واضحين. هل تجعلك الثورة تفكر في إعادة الكتابة؟

} الاستبداد ظاهرة تاريخية وليس له وطن محدد. كتبتها العام 2004 حين كانت عشرات الدول العربية والافريقية وأخرى عديدة ترزح تحت حكم الاستبداد بما فيها سورية. لم أسم في الرواية الدولة أو المدينة أو الديكتاتور، ولكن كل من قرأها عرف عما وعمن أتحدث. أردت بعدم تسميتي المباشرة للمكان أن أجعلها عامة وخاصة في الوقت نفسه. ثم انني أردت أن أتفادى المنع والمصادرة وهذه احدى الامكانيات الرائعة للأدب، وهي ان تقول ما تريد قوله بطريقة فنية معقدة وفي الوقت نفسه بمفاتيح بسيطة. هل تقصد أن أعيد كتابتها؟ بالطبع لا، فقد كانت الرواية ابنة زمنها، بل إنني أرغب في كتابة عمل روائي شبيه برواية «المخطوط القرمزي» التي كتبها الاسباني انطونيو غالا عن «عبد الله الصغير» آخر ملوك الطوائف في الاندلس.

÷ أوردت وكالة الأنباء الرسمية السورية نبأ قراءتك مقاطع من رواية، كانت في الواقع «الصمت والصخب»، مستبدلة برواية أخرى، ماذا عنى لك ذلك الاستبدال؟

} تحظى هذه الرواية باهتمام الاوساط الثقافية ودور النشر خارج سورية، وخاصة في أوروبا، وقد دعيت في أيار مايو الماضي الى مهرجان سولوثورن الأدبي في سويسرا وقرأت في احد اللقاءات صفحات عدة من هذه الرواية المترجمة الى الألمانية وكانت معظم الأسئلة التي وجهت اليّ تدور حول الاستبداد والأحداث في سورية، إلا أنهم صاغوا الخبر بشكل مختلف، هذا الخبر الذي نشرته وكالة الانباء السورية الرسمية حول قراءتي لمقاطع من رواية «حالة شغف» المختلفة تماماً في الموضوع المطروق فهذه الرواية ترصد حالة العشق النسائي – النسائي (بنات العشرة) في مدينة حلب. أعتقد ان الوكالة، كعادتها أبداً، أرادت أن تقول إن كل شيء في سورية على ما يرام، وان كتابنا الأعزاء مستمرون بالاهتمام بقضايا العشق.

مخاوف

÷ اخترت أخيراً مغادرة البلاد، هل كان ذلك تحت تهديد أو ضغوط، أم مخاوف شخصية؟ هل يجعلك ذلك أكثر حرية في الكتابة والتعاطي مع الشأن السوري؟

} إنني لا أتظاهر ولا أحمل السلاح ولكنني مع التغيير الجذري، وأرى أن الحياة في سورية أصبحت خطيرة مع هذا الذئب الجريح. كما أنني أحب أن أعيش بعيداً عن الضغط المباشر للأحداث فواحد مثلي عليه أن يكون بعيداً كي يقدم أهم ما عنده ليخدم عملية التغيير. لقد وجدت نفسي أخدم قضية الشعب السوري بطريقة مختلفة وفي أماكن تختلف عما يفعله الرائعان ياسين الحاج صالح وفارس الحلو على سبيل المثال.

÷ هل تجد أن الثورة تمضي في طريقها المتوقع، أم أنها حملت مفاجآت بالنسبة لك؟

} قبل الثورة كنت أعرف، كما يعرف غيري، ماذا كان يجري في أقبية المخابرات من عنف وإذلال. حين قرروا قمع حركة إحياء المجتمع المدني قاموا بأعمال بسيطة مثلاً حطموا زجاج سيارتي ورشوا سيارة سمير نشار (هو الآن عضو اللجنة التنفيذية في المجلس الوطني السوري) بالاسيد. قلنا معليش.. وكنا نتوقع عنفاً ما في حال القيام بمظاهرة تطالب بالديموقراطية أو بتغيير المحافظ (كما جرى في حمص في البداية) أما أن تقلع أظافر الاولاد، لانهم كانوا يتسلون بكتابة شعارات الثورة المصرية التي شاهدوها على التلفزيون، ثم يطلق الرصاص على المتظاهرين، ثم تطلق مدافع الدبابات والطائرات على رؤوس البشر الآمنين ويجري تشويه الجثث وتقطع الأعضاء التناسلية قبل أن ترسل الجثث الى ذويها، فهذا ما كان أحد ليتصوره. في السابق كانت السلطة تمارس العنف تحت الأرض، ولكن بعد آذار 2011 طفا على السطح وراحت السلطة تمارسه في الشارع وفي ضوء النهار، والفضل كل الفضل لكاميرات الموبايلات التي فضحت هذه الممارسات في حين رفضوا الاقرار بذلك في البداية وسجنوا كل من ينشر ان هناك عنفاً فظيعاً يقوم به أمن السلطة. ورغم ان لافروف انتقد الأخطاء الكبيرة التي اقترفتها السلطة (في بداية الأحداث!) واعترف الرئيس الأسد بتلك الأخطاء نفسها، إلا أنهم مستمرون باقترافها ولن يوقفهم أحد حتى لو أدى ذلك الى تدمير البلد.

÷ هل من مخاوف تستشعرها اليوم؟

} بالطبع هناك مخاوف كثيرة يستشعرها كل صاحب ضمير وعقل. إنني أرى بلداً مدمراً لن تسلم منه أي مدينة أو قرية، وأرى الجيش وقد تفكك والمدرعات متروكة في الطرقات وهي مدمرة أو سليمة، ولكن جنودها تركوها قبل أن يهربوا. وأرى كيف أن السوريين قد تحولوا الى لاجئين غير مرغوب فيهم من قبل الجيران أنفسهم الذين تم اكرامهم في البيوت نفسها التي تركها أصحابها وأصبحوا لاجئين عندهم. كما أرى كيف أن هذا الشعب الكريم ينتظر من يسعفه ويرسل له رغيف خبز أو خيمة. من كان يفكر بالثورة قبل آذار 2011؟ لم يكن هناك شخص واحد يفكر في ذلك، وكان يمكن تفادي كل ذلك وإنقاذ سورية لو ان نظام الحكمة هذا قد أرسل شخصاً ليقبل رؤوس شيوخ درعا ويعتذر عن حماقة البعثيين المحليين المتعجرفين الأغبياء وينصف الأولاد المشوّهين.

(القاهرة)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى