صفحات سورية

نهاية الدولة السورية

 

د.خالص جلبي

أخبرتني ابنتي عن مقالة انتشرت بسرعة على النت بعنوان «نهاية دولة». وقد ذهب بعض الصحفيين العرب إلى التأكيد على هذا، وأن الأزمة السورية ليس لها مخرج لا سياسياً ولا عسكرياً! وفي هذه المأزق التاريخي الذي تعيشه سوريا ينفع فيها الرؤية التاريخية. والرؤية هنا ليست الإبصار الفيزيائي، بل التاريخي، ولذا فمن سيفقه في مآل الأمور في الأزمة السورية هم علماء الاجتماع وخبراء السيكولوجيا والتاريخ.

وقد اجتمعت يوماً بطبيبة من منطقة السلمية قرب حماة، فروت لي قصة، ثم استعطفتني برجاء حار ألا أنقل القصة لأحد.

وهذه القصة أرى نقلها للقراء حتى يستوعبوا أن ما يحدث في سوريا هو تحصيل حاصل!

لم يدر بخلد الشاب ذي الثمانية عشر ربيعاً أن تلك الزيارة الخاطفة ستقرر مصيره، ففي سوريا كان الشاب في خدمة العلم فأرسل إلى منطقة حدودية مجاورة للعراق.

شعر الشاب أن إمكانية زيارة خاله الفار إلى العراق المجاور هي مسألة جغرافية، فليس أمامه سوى القفز بضع مئات من الأمتار الحدودية، فيزور قريبه الذي يحبه… وكانت غلطة قاتلة.

احتفى به خاله وقبَّله، ولكنه قال له لقد أخطأت بما فعلت، فأنت يا بني لا تعبر حدوداً ترابية، ومسألة الحدود بين العرب هي أشد من القفز في أطواق النيران. ثم إن خال الشاب قال له ارجع بسرعة قبل أن يعلم الرفاق من هنا أو هناك بأمرك فيذيقونك العذاب الأليم.

كان الشاب صيداً ثميناً لمخابرات الرفاق في القطرين المتجاورين فهو خائن من جهة ومستودع معلومات للطرف الآخر.

وعندما قام بزيارة في السلمية أطلع والده على ما حصل معه فارتج الوالد رعباً وقال يا بني لقد أوقعتنا في ورطة كبرى.

ثم إن الأب انطلق بابنه إلى رئيس فرع مخابرات المنطقة فأطلعه على الأمر وقال أنتم أعلم بطيش الشباب وعدم تقديرهم لعواقب الأمور وها أنا والده أسلمه إليكم لترأفوا بحاله.

قال له بابتسامة ماكرة: اطمئن هو في أيد أمينة وهي ساعة من نهار نستجوبه ثم يرجع إليكم.

رجع الوالد إلى بيته واعتبر أن المسألة قد حلت وانتهت. ولم يدر في خلد أحد أن الرحلة الفعلية بدأت، فلم يعد الشاب إلى ذويه تلك الليلة ولا التي بعدها، ومرت الأيام والأشهر ولا أحد يعرف في أي قبو من أفرع مخابرات النظام يسجن.

ودامت الرحلة ثلاث سنوات حتى عاد. ولكن لم يعد ذلك الشاب الضاحك المرح بل تحول إلى إنسان هرم محطم.

كان الشاب في حالة وجوم وذهول مستمرين، وتحضره غيبوبة عند اجتماع الناس به، وعلاه صمت لا يفكه شيء، فلم ينطق حرفاً أين كان سجنه؟ من سجنه؟ وماذا سألوه في التحقيق؟ وعن أي شيء؟ وماذا تعرض له؟

ثم بدأت عليه عوارض الجنون الخفيف فيخرج هائماً على وجهه وقت السحر ويخرج بملابس صيفية في أعز وقت البرد.

استمرت الحالة هكذا أشهراً طويلة وهو يرزح تحت صدمة لا فكاك منها ولا خلاص، حتى جاءت تلك الليلة المخيفة فتوجه الشاب إلى بئر ارتوازي وهو من النوع المخروطي فتحته تتسع لإنسان ونهايته تضيق بعد مئة متر، فقام بإجراء طقوس الموت، فخلع نعليه، ثم ألقى بنفسه في البئر فانحشر واقفاً منكساً!

مات الشاب تدريجياً بنقص الأكسجين التدريجي في ميتة من أبشع الميتات.

اختفى الشاب وبحث الأهل عنه حتى عثروا عليه، ودلَّوا بالحبال فلم يتمكنوا من انتزاعه، فمكث والده ثماني ساعات وهو يراقب حفر بئر موازية بأوسع وبجانب الأولى، حتى وصلوا إلى مستوى جسم الشاب الميت، فحفروا حفرة جانبية انتشلوا منها الجثة كاملة عبر هذا النفق حتى يتمكنوا من دفنه.

كان الوالد يبكي ويندب طول الوقت. جاءت المخابرات وأكدت عليهم دفن الشاب بدون ذكر وبدون عزاء وبدون صلاة، وأن يشيعوا خبره أنه انتحر. والسؤال هل كان هذا الشاب فعلاً منتحراً؟

لقد أوصلت مخابرات النظام السوري الشاب إلى تلك الحافة التي يرى فيها أنه ليس هناك ما يستحق أن يعيش المرء من أجله وأفضل ما يفعله أن يقدم استقالته من الحياة ويستريح؟

أو أن يثور فيضرب بصواريخ «سكود» ويدفن تسعون ألف قتيل.

وإذا انتهت الدولة السورية فليس من شيء يبكى عليه فلم يكن ثمة دولة ومواطن ووطن بل مقبرة وحفار قبور وقبور فاغرة أفواهها للاستقبال.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى