صفحات الرأي

نهاية “القرن الأميركي”!؟/ شادي لويس

 

 

“وأخيرا، فإن هناك إعتقاد يتشاركه معظم البشر بأن القرن العشرين حتما سيكون قرنا أميركيا بدرجة كبيرة”، في مقالة “القرن الأميركي”، التي نشرها مؤسس مجلة “تايم” والناشر الأميركي، هنري لوس، في العام 1941، في سياق حثه للإدارة الأميركية على الدخول في الحرب العالمية الثانية. لا يكتفي الرجل، الذي لطالما وصف بأنه “المواطن الأميركي الأكثر تأثيرا في عصره”، بدعوة الولايات المتحدة للاستجابه لقدرها التاريخي لقيادة العالم، والتنبؤ بهيمنتها المستقبلية، بل والأهم أنه يؤكد على أن سيادة الثقافة والقيم الأميركية هي أمر واقع بالفعل، ولا ينقضها سوى إعلان نهائي بالقوة العسكرية. تأتي أهمية مانفستو “لوس”، الذي لم يتجاوز 13 صفحة، إلا أنه رسم مستقبل النصف الثاني من القرن العشرين، في تقريره الثاقب لعلاقة شعبية موسيقى الجاز، وأفلام هوليوود، والإنجازات التقنية والنظام الأكاديمي للولايات المتحدة، جنبا إلي جنب مع بضائعها الإستهلاكية في ترويج القيم الأميركية والرأسمالية عالميا، وتعزيز موقع الولايات المتحدة كقوة عظمى على المستوى الدولي…

وبالرغم من أن دخول الولايات المتحدة للحرب العالمية الثانية كان الخطوة الأخيرة لإعلان بداية عصر هيمنتها السياسية والعسكرية، ولاحقا سيادتها الإقتصادية والمالية بعد سقوط نظام “بريتون وودز” المالي في العام 1973، وتحول الدولار الأميركي لعملة التقييم في نظام العولمة الإقتصادية الصاعد حينها، فإن العلاقة التي افترضها لوس بين المنتج الثقافي والتسويق الإستهلاكي وبين والهيمنه السياسية والإيديولوجية للولايات المتحدة، أصبحت محلا للشك في نهاية الحرب الباردة، مطلع التسعينات. ففيما اتجه تيار في مجال الدراسات الثقافية للتقليل من الدور الذي لعبته موسيقى الروك، على سبيل المثال، في ترويج طريقة الحياة الأميركية وقيمها في دول الكتلة الشرقية (الشيوعية)، ومراجعة المبالغة في تقييم تأثير شعبية سينما هوليوود على صورة الولايات المتحدة في الخارج، فثمة فريق آخر انهمك في دراسة الطرق التي قامت من خلالها مجتمعات الجنوب في إعادة إنتاج المنتج الثقافي والفني الأميركية وتوظيف تقنياته لمقاومة الهيمنة الثقافية الأميركية، والتنديد بسياساتها الدولية ضمن أغراض أخرى.

وفيما نجحت تلك المراجعات في تبيان حقيقة بديهية، وهي أن من يشرب الكوكا كولا أو يستمع لموسيقى الهيب هوب ويستخدم حاسوب من إنتاج شركة آبل، ليس بالضرور مؤيدا لسياسات الولايات المتحدة أو مؤمنا بقيم الديموقراطية- الرأسمالية. ولم يكشف صعود شعبية الدراما التركية واللاتينية على سبيل المثال في دول الجنوب، والتصدير العكسي للدراما البوليسية السويدية، والكوميديا التلفزيونية البريطانية إلي الولايات المتحدة في العقد الماضي، فقط عن ظهور منافسين للمنتج الفني والثقافي الأميركي، بل وأيضا عن عمليات التحييد السياسي التي تسبغها العولمة على المنتج الإبداعي، بفصل قيمته الجمالية عن الموقف السياسي من دولة المنشأ والتقييم الأخلاقي لقيم مجتمعها.

يبدو فوز ترامب الإنتخابي، مؤخرا، أشبه بإعلان متأخر عن أفول القرن الأميركي. فخطابه السياسي أثناء الحملة الإنتخابية يقدم مبررات كافية للإدعاء بنهاية عصر “هنري لوس”. فبعد التبعات الكارثية للمغامرة الامبراطورية لإدارة بوش الابن في العراق، وانسحاب أوباما الوجل من الصراعات الإقليمية حول العالم، تأتي أجندة ترامب الإنغلاقية تجاه السياسية الدولية علامة أخرى على تراجع قدرة الولايات المتحدة ورغبتها في القيام بدور شرطي العالم الذي دعا إليه لوس في مقالته. ومن جانب آخر، على أن عداء ترامب الواضح للأقليات، وإتفاقيات التجارة الحرة والهجرة، وتعليقاته المهينة للنساء، وحياديته إن لم يكن إعجابه ببوتين ونظام بشار الأسد، لا تتعارض فقط مع قيم المساواة، والديمقراطية، والسوق الحرة والعولمة التي لطالما روج لها بوصفها من القيم الأمركية، بل تنزع عن الولايات المتحدة أهليتها الأخلاقية لقيادة “العالم الحر” في أعين الكثيرين، غير زعزعتها للثقة في نجاعه الديمقراطية التي جاءت بأمثاله إلى الحكم.

وفي المقابل، كشفت الانتخابات الأميركية الأخيرة، والاهتمام الإعلامي والجماهيري الواسع والأستثنائي بها حول العالم، عن تماه دولي مع السياسة الأميركية، وهيمنه لها بشكل آخر.

فغير الاهتمام المعتاد والمبرر بتبعات نتيجة الإنتخابات على سياسة الولايات المتحدة الخارجية وبالتالي على الأوضاع المحلية والأقليمية عالميا، فثمة حالة استثنائية من التعاطف مع الأقليات والمهاجرين والنساء ومعارضي ترامب الأميركيين، تتسع وتتحول لشأن محلي وشخصي حول العالم. تبدو حالة الغضب والأحباط الواسعة على السواء من وصول ترامب للببت الأبيض في مجتمعات الشمال والجنوب على السواء، كاعتراف ضمني بأن الولايات المتحدة لاتزال “عاصمة للعالم”، كما وصفها لوس في مقالته، وكذلك كانتفاض معولم بالإصاله عن القيم الأميركية، وفي سبيلها، ضد ترامب، الذي لا ينظر له كممثل لها، بل استثناء ينبغي لفظه وإنكاره.

من المبكر التكهن بتبعات وصول ترامب إلى البيت الأبيض، لكن من المبرر الإدعاء بأن تحولات العقود الأخيرة، وإن كانت لا تشي بسقوط الهمينة الأميركية عسكريا وإيديولوجيا، فهي تنبئ بأن تغيرات حادة  في عمقها وصورها ووسائلها وتمظهراتها قيد التشكل، وكذلك “عصر هنري لوس” لم تأت نهايته بعد.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى