صفحات الرأي

نهاية النموذج التسلطي


مراجعة: عفيف عثمان

يحاول باروت الإضاءة على المشهد السوري الحالي من خلال مقاربة زمنين، الأول ما يسميه “جدلية الجمود والإصلاح”، فينطلق من الحوادث التي اندلعت في شباط/فبراير من العام 2011 في مدينة درعا وهي من المدن الطرفية، ويميل الى تفسيرها بمؤشرات التنمية والبطالة والديموغرافيا، حيث يتبنى مفهوم “انفتاح النافذة الديموغرافية” التي يرتفع فيها على مستوى العرض الديموغرافي، معدل نمو حجم السكان في قوة العمل (15 65 سنة) بأعلى من معدل النمو السكاني، ومن معدل نمو الشرائح العمرية الأخرى الطفلية والمسنة، في حين يتسم العرض الاقتصادي بمحدوديته في استيعاب هذه القوة المتنامية، ما يولد التوتر بين العرض الديموغرافي الكبير وبين الطلب الاقتصادي المحدود، ويؤدي الى ارتفاع معدل البطالة والتهميش الاقتصادي الاجتماعي. في مقابل ذلك، تلجأ السلطة في شكل عام الى التدخل في ما يسمى إعادة الهيكلة، ولهذه الأخيرة بالتأكيد أثرها في المجتمع، إذ يمكن تحقيق نمو اقتصادي من دون تنمية. وفي عرف الباحث أن “النمو في ذاته لا يُفضي الى التنمية، لكنه شرط لا بد منه”.

يرى باروت أن الرئيس السوري، بشار الأسد، ورث في العام 2000 “تركة حرجة في محيط جيو سياسي مضطرب” أخذت شكل أزمة هيكلية أو بنيوية حاولت الدولة التدخل لحلها من طريق زيادة عدد العاملين في القطاع العام. ويعتبر الباحث أن الأسد الابن حاول في خطاب القسم تقديم رؤية “إصلاحية” لم تتحقق وكانت “فرصة ضائعة” ترتب عليها كلفة كبيرة. وما حصل بعد ذلك هو انفتاح اقتصادي تمثل في خطط وبرامج خمسية وعشرية من دون أي تجديد سياسي، الأمر الذي جعل الإصلاح يتحول الى مجرد “عملية تحرير” كما حصل في المكسيك، يرى فيها باروت وفي آثارها الكارثية مفتاح فهم ما يجري وسيجري في سوريا.

ومن نتائج التحرير الاقتصادي “الليبرالي” في مناخ العولمة المهيأ لاستقبال فوائض الأموال الخليجية والسورية، بروز شريحة من رجال الأعمال الجدد يسميهم الباحث “المئة الكبار” الذين تحالفوا في ما بينهم وأسسوا الشركات القابضة وأقاموا شراكة مع الحكومة، ومن مآثرها أن هذه الأخيرة خضعت لهذه الشركات ولمصالح نخبها، أكثر مما التزمت هي مصالح وسياسات الدولة التنموية. وقد تركزت أنشطة رجال الأعمال على المجالات العقارية والخدمية سريعة المردود. ويشرح باروت كيف تحولت المنافسة الاحتكارية بين هؤلاء الكبار من فلسفة “الملعب المنبسط” الى نظام احتكار القلة ونموذجها قطاع الاتصالات. وأفضت الحال الى “نمو أكثر وتنمية أقل” في سياق أزمات داخلية وخارجية منها: الجفاف وارتفاع أسعار المواد الغذائية وتراجع الصادرات وإفلاس عدد من المنشآت الصناعية وتراجع حجم التحويلات من الخارج.

وكان أن ازدادت نسبة السكان الفقراء من 11,4 في المئة يمثلون 2,043 مليون نسمة عام 2004 الى 12,3 في المئة عام 2007 يبلغون نحو 2,358 مليون من جملة السكان. ويقول الباحث إن المنطقة الشمالية الشرقية، وتحديداً إدلب وريف حلب ومحافظات الرقة ودير الزور، استحوذت على أكبر عدد من الفقراء مقارنة بعام 2004، كما ازداد الفقر الشديد في المنطقة الجنوبية ولا سيًما في ريفها. وهو ما يُفسر في نظره اندلاع الاحتجاجات في المناطق الأدنى نُمواً. وينسب حالات الفقر المتنامية الى الاختلالات في عدالة توزيع الدخل الوطني معطوفاً على ارتفاع معدلات التضخم والسياسة الضريبية. ويعقد باروت الصلة بين سياسة الاستثمارات ومشكلات البطالة والفقر وسوء توزيع الدخل وأزمة القطاع الزراعي في مناخ الأزمة المالية العالمية.

ثمة فارق، بحسب الباحث، بين “اللبرلة” التي قد تقودها أنظمة تسلطية و”الدمقرطة”، وليس من الضروري أن تفضي عملية الإصلاح الى الديموقراطية. ومن خلال متابعة الباحث الدقيقة وإدراكه التحولات الهيكلية في النظام السوري، يستنتج تفسخ سماته التوتاليتارية وتحول الدولة الى لاعب بين عدة لاعبين، مع ما يعنيه ذلك من إعادة توزيع الأدوار الاجتماعية ومن إعادة تعريف للسلطة المتحولة الى “نظام تسلطي مرن”، بموازاة ضمور المجتمع المدني واللجوء الى الوسائط الإعلامية الحديثة للتواصل، مثابة تعويض عن غياب الفضاء العام وتفلت من الرقابة المشددة. وينتهي باروت في قراءته للزمن الأول هذا البارز كخلفية لحركات الاحتجاج الى أنه جرى “خلال هذه العشرية (2000 2010) التحول من الوعود المؤسسية الإصلاحية التي تفتح أفق التحول الديموقراطي، لما فيه مصلحة نمو تسلطي مُلبرل يُغلق هذا الأفق، ويزيد المهمشين تهميشاً، والفقراء فقراً، والديناميات السياسية والحوكمية تسلطاً”.

فرض الزمن الثاني الذي يقرأه باروت نفسه تحت عنوان “سيرورة التغيير” الذي بدأ بالوقفات الاحتجاجية البسيطة. لذا، يبذل جهده للتأريخ لها وسبر مسبباتها، ويبدأ من حادثة الحريقة في دمشق في 19 شباط/فبراير 2010، حين تجمهر جمع من المارة للمطالبة بإطلاق سراح شاب أُهين على يد رجال الشرطة وتدخل وزير الداخلية شخصياً لحل الأمر بما يرضي المحتجين، ويقرأ الباحث فيها القابلية التي بلغها المجتمع السوري للانتفاض على التسلط، وهذه الحادثة كانت كرة “الثلج” التي تدحرجت وكبرت وأخذت شكل مظاهرات واعتصامات ومعارضة مسلحة، وأنتجت تالياً ديناميات خاصة منها “ديناميات الجمعة”.

يتتبع الباحث التطورات الميدانية وفي جهد واضح يحاول قراءة الأسباب الموضوعية والمجتمعية المحركة للناس، ومنها على سبيل المثل “ثورة ريف دمشق”، ويقارب ارتفاع وتيرة التدين نفسها بوصفها مرتبطة بمسألتي الحرمان والاحباط. ومن ثم يرسم باروت خريطة اللاعبين الاجتماعيين وتشمل السلطة والمعارضة بأطيافها والعشائر والمستقلين ومستخدمي “الفيسبوك” و “اليوتيوب” وتنسيقيات الشباب والفئات الوسطى والبرجوازية الصغيرة.

والحال، أي مآل وأي أفق وسط هذه الأزمة البنيوية المستفحلة، المتحولة نزاعاً مسلحاً وميزان قوى جديد اضافة الى سقوط النموذج التسلطي؟ وأي براديغم آخر يمكن ترقبه في الآتي من الأيام؟ في غياب إجابات قاطعة، يقف باروت، في موقف يعكس حرصه على بلده، الى جانب “التسوية التاريخية” كونه يرى أن السياسة عموماً هي فن التفاوض والمساومة، وهو يرغب في “التفاهم الوطني” ولا مناص في غياب هذا الأخير من “الصراع المستدام والتفكك والانهيار”.

[ الكتاب: العقد الأخير في تاريخ سوريا، جدلية الجمود والإصلاح.

[ الكاتب: محمد جمال باروت.

[ الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2012.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى