نهاية زمن البصم بالأصابع العشرة
عزيز تبسي
لا يمكن رمي كل شئ من النافذة،ليس عن حلم رائق وقع أخيراً ليروّض الإنفعال الجسور أمام الإستفزاز اليومي بسخافة القول وإنحلاله.نتذكر أخيراً بأن النافذة مغلقة،وقد نجبر على كسرها لإستدراج الهواء إلى رئاتنا وأصواتنا المخنوقة وطرح القذارات ،إلى الفناء السريع المتبقي من سباق القطار العجول.
-1-
حسن جداً البحث عما يجمع السوريين ومسلٍّ كذلك إشغال الوقت المتبقي من عمر الطغمة العسكرية لصناعة وفاق إجتماعي سريع العطب،بينما هم ينحتون على البازلت خيارهم التاريخي ويلونونه،السوريون منذ 18 آذار2011 في إنتفاضة ثورية عارمة،إذاً هناك مايفرقهم عن غيرهم ،وهم مصرّون على إظهاره والتذكير به ورفع الهتاف عالياً ليسمعه الجميع ،رغم ذاك الإصرار اليومي المخادع على إبلاغهم أنهم –جميعاً-يحبون الفتوش والتبولة وخبز التنور ونهر بردى وجبل قاسيون….،لكن كل هذا وغيره مما يأتي في سياقه لتوكيد الخفيف من عناصر الحياة اليومية،لا يقدم أي جديد سياسي ومعرفي.
انفتح المعنى الجدير بالتأمل والمعاينة والإدراك،كسرادق الأفراح ليمتلئ بقطرات الحياة التي تدفقت أخيراً من الكائن الجمعي الذي بات يسمى عن حقيقة لا عن خداع الشعب، ويتأكد كل يوم:أن ما يجمعه الفتوش والتبولة والخيزرانة وغيرهم تفرقه الإنتفاضة الشعبية الثورية.
تتجاوز الإنتفاضة الشعبية كل يوم حصارات دوائر النار وحممها اللاهبة،والرسائل الكاوية المتعددة الأشكال لطوق الفولاذ الفاشي ،والأهم تجاوزها اليومي للفكر السياسي الرجعي الذي عكفت على تسويقه الحركة السياسية التقليدية،والتي تساوى فيها وظيفياً شيوعيها مع بعثييها مع ناصرييها مع إسلامييها…. ليشكل ضبط ما تبقى من بكداش والبوطي وصفوان قدسي وشريف شحادة وعلي حيدر….وغيرهم متلبسين في إنتاج خطاب سياسي واحد إنجازاً ثوريا وجنائياً في آن،إنجازاً كان سيستغرق سنوات في زمن”البصم بالأصابع العشرة”،لتظهر للعموم الوحدة العضوية الوظيفية الرجعية لحاملي تلك للأيديولوجيات والتي طالما أصّر عتالوهن بثقة على تأكيد معاني التعدد-التفارق-التصارع.
ويتحقق الشعب الثائر بالملموس من أن كل هزليات الممانعة والعروبة والقومية اللفظية ما هي إلا قرص بخور بنغالي،طارد لإزعاج”البعوض الشعبي”وطنينه،ليتكفل بتأمين نوم هادئ للطغمة العسكرية وأعوانها في نعيم إمتيازاتهم.وإن هذه التعابير في وجه منها قصف مدفعي تمهدي للتقدم البري لمليشيات الفكر التصفوي والإقصائي بلباسهم المموه،اللذين إكتسبا بالممارسة وفوهة البندقية الحاسمة هوس التخوين لأي محتج أو معارض كمقدمة أيديولوجية لابد منها لإكساب إقصائه شرعية ما.
ويتيقن المهتمون بآخر الإنجازات الثقافية من الإطلالة الهاذية للعلمانية السورية وصخب طبولها الترويجية، التي تباع بالجملة والمفرق في الحوّزات والحسينيات والقبيسيات وقفار الجماعات الوهابية،الذين ينشطون جميعاً بحمية التبشير في أدغال الشعوب الوثنية ،برضى وأذون كتابية ورعاية من قادة المحاربين ودفتر أولوياتهم،ويتكامل معهم صخب جماعات شيوعية لفظية وسواها من الفضلات المعوية للأنظمة المترنحة، تمتح من نفس المرجعية الفاشية،شكل نقد الدين بخفيف الكلام بعد عزله عن أسسه وأسبابه وعن كونه شكلاً تاريخياً محدداً للوعي البشري،إمتياز العبودية الوحيد الذي أبقاها المحاربون الفاشست لهؤلاء العلمانيين،يتلهون به في مكاتبهم وجرائدهم ومواقعهم الإلكترونية ……
وتترنح الوحدة الوطنية الإمتطائية تحت ثقل بردعة أكاذيبها،ويكتشف الناس أنهم ليسوا سواسية كأسنان المشط إلا في نشرات الأخبار والعراضات الصاخبة التي تأخذ شكل مسيرات تثبيت الناس في موقع الراضي عن إذلاله وتجويعه وحرمانه من حريته وتمتعه بتلك العبودية التي تبدأ وتنتهي بشكر مالكي العبيد ونخاسيهم على أفضالهم،وأنهم منقسمون بقوة مصائرهم التي تؤكد تفارقها وإنتباذية لعنة الهوامش الأبدية،وثقل الإنحيازات زائفها عن صادقها،وأن القوة الحربية التي توحدهم هي عينها التي تدق الأسافين المدببة لتشقهم وتكرس معتزلاتهم،وتنتج ضباع عداواتهم وترشدهم إلى الذبائح.
ويشكل ضبط الجيش في خندق العدو متلبساً للمرة الثالثة أو الرابعة أو العاشرة بعد إجتياح لبنان والمخيمات الفلسطينية ومدينة حماة…. في قتل الشعب الأعزل وقصف المدن والقرى بالمدفعية والطيران كما يفعل المستعمرون الغزاة،إنجازاً مكلفاً بالمعنى الإنساني والأخلاقي والوطني،بعد عقود من التحايل على تحقيق أي واجب وطني،والفرار منه بخفيف البيانات والخطب والتلهي بهما،الجيش الذي طالما إمتنع عن صيد العصافير في هضبة الجولان وقطع أيدي من فعل ذلك،كي لا تفسر الصهيونية الحربية خطأ سلوكه وتعاقبه،لكونه أبقي على وظيفة حماية حدودها وتحقيق النوم الهادئ للمستوطنين والمصطافين في هدئه تلالها وينابيعها.متواطئاً مع الإستفزازات المتعمدة كذلك متسولاً منها أوسمة الوطنية وضراعة إستحساناتها،حين يحلق طيرانها فوق المدن،وينفذ بعنجهية قصف مواقع في العمق الجغرافي ضد معسكرات مهجورة للمقاومة الفلسطينية وضد مفاعل نووي قيد الإنشاء،وحين يسمح للقوات التركية بموجب إتفاقية أضنة وملحقاتها العسكرية والأمنية الدخول في العمق الجغرافي لمسافة تزيد عن عشر كيلومترات،وحين تدخل وحدة عسكرية أمريكية إلى قرية من أعمال دير الزور لتنفذ عملية عسكرية تكتمل بالقتل والإعتقال.
يتحرر الناس من “مرض سرعة التصديق”الذي أخذ شكل سلسلة وعود لاتنتهي،حين أضاعوا في غمرة كثرتها زمن بدايتها،ليتساءلوا من حين لآخر ترى هل بدأت بالحميّة النارية لإعادة الوحدة السورية-المصرية التي “ما يغلبها غلاب”وفق أغنية روّجها الوحدويون وإستقبلها الناس كقسم لايحنث،أم بحمل الصابون المعطر والثياب النظيفة للمضي بنزهة للإستحمام في مياه بحيرة طبرية،أم بجعل الناس سواسية تحت أسنان التمساح وفكه المفتوح على الغدر الطويل.
ويسخرون من ماضي الخضوع الطويل لصيغ الحقيقة الرسمية،ويتسألون في خجل هل نحن من كنا نقتنع بتلك الأكاذيب،أم غيرنا من العابرين في اللغو الفاشي وفتنة حروفه.يوم دفعت الأدوات الأمنية للسلطة الفاشية المعتقلين للتصريح بكل ما هو غير حقيقتهم بغاية تحطيمهم من الداخل،بأنهم نساء/أرانب/شاذون/أولاد زنى……وأظهرتهم على شاشات محطاتها التلفزيونية ليعترفوا أمام ملايين المشاهدين،أنهم بلا أي مبدأ يعملون لأجله،مجرد لصوص وقتلة ومتآمرين وعملاء ويتقاضون أموال مقابل أعمالهم الخسيسة.
ويشعر الناس كلفة طي هذه الصفحة السوداء من تاريخهم،وضريبة السكوت الطويل على الطغيان،يوم قايضوا الرغيف “المدعوم”وحفنة السكر والأرز بحريتهم وكرامتهم،ويوم كبرت الأنا المقمطة بقماش الرعب،وهم يسدلون ستائر نوافذهم عن مشاهد القتل في الشوارع والشبان المقيدين المقادين كقطيع ذابل إلى السجون وساحات الإعدام،وساعة تحولت أرضهم الوطنية إلى عقارات توهب وتسرق ويغض البصر عن تجارات بها وبإسمها.لكنهم حزموا أمرهم أخيراً،حين قرروا الإعتراض على ذبح أولادهم والتنكيل بهم،وقطع ليل الطغمة الحربية بنداءات النهار.
عزيز تبسي حلب-تموز2012
خاص – صفحات سورية –