صفحات الرأي

نهاية «سايكس ـ بيكو»

كريستوف عياد

تعدّ الثورات العربية التي بدأت في العام 2011 عمليات تاريخية، نحن ابعد ما نكون فيها عن قياس نطاقها وعواقبها. يمكن ان تكون واحدة من بين الثورات، تلك التي رسمت منذ ما يقارب القرن من الزمن، في 16 أيار 1916، من خلال اتفاق «سايكس بيكو» السري، الذي جرى في لندن من قبل المفوضين الساميين، البريطاني مارك سايكس والفرنسي جورج بيكو. تترافق نصوص الاتفاق مع خرائط هدفت الى تقسيم الشرق الاوسط بعد سقوط السلطنة العثمانية، حيث أعطت مناطق نفوذ لفرنسا والمملكة المتحدة، لكنها رسمت ايضا حدود البلاد المستقبلية للمنطقة.

استمر هذا النظام الاستعماري في الشرق الاوسط بعد الاستقلالات التي تبعت الحرب العالمية الثانية، وقد تمّ اعتبار ذلك لمصلحة النخب العسكرية التي استولت على السلطة في المنطقة. وفي ذلك الوقت، كان صدام حسين في العراق وحافظ الاسد في سوريا هما الغيورين على الحدود المرسومة من قبل المستعمرين المحتقرين لتقسيم الامة العربية.

لم يتوقف الدكتاتوران البعثيان اللذان كانا يحكمان بلدين هما مفتاح المشرق، عن زرع القومية الوطنية لتعزيز هويات بلاد لها حدود اعتباطية.

وقد تميّزت اتفاقيات «سايكس بيكو» بتطعيم العرقية والطائفية في الشرق الاوسط، من خلال جعل لبنان منفصلاً عن سوريا لارضاء الفرنسيين، وبعثرة الاكراد في اربع دول، اثنان منها عربية وهي العراق وسوريا بالاضافة الى تركيا وايران، كما وجد الموصل السني والمسيحي نفسه منفصلا عن اخته السورية، حلب. وهناك الكثير من القبائل الكبيرة، مثل «الشماخ»، التي تعيش في ترحال ضمن أربعة بلدان: المملكة العربية السعودية، الاردن، العراق وسوريا. كما رمت ترتيبات أخرى بقسم من العلويين السوريين في تركيا وإلحاق سانت جاك الاسكندرونة بأنقرة.

ولكن هذا التقسيم الذي حافظت عليه سلطات حكمت بعد الاستقلال أصبح الآن يتطاير. بدأ اهتزاز شرق اوسط «سايكس بيكو» في العام 2003 مع غزو الولايات المتحدة للعراق. هذا الحدث الكبير دمّر ثم أعاد بناء واحدة من اقوى الدول المركزية في المنطقة: عراق صدام حسين كان خليطا من حضارة بلاد ما بين النهرين القديمة والسنّة البعثيين. منظرو المحافظين الجدد الذين خططوا لغزو العراق وإعادة بنائه كانوا يريدون جعله بلدا ضعيفا مقسّما الى فدراليات عرقية طائفية. كان هدف هذا المشروع، المزج بين الليبرالية الجديدة والاستعمار الذي أنهى القومية العربية القديمة التي تعدّ مصدر كل شرور المنطقة ابتداء من العداء المتطرف لاسرائيل.

ولكن في بلد ضعيف مثل العراق يعاني التناحر بين الاعراق والطوائف، قد فتح «صندوق باندورة» بين الاكراد والعرب، وبين السنة والشيعة. العراق فريسة لقوى مركزية ذات سلطة غير عادية، اصبح اليوم ملعبا لطموحات وتدخلات اقليمية، حيث كل من تركيا وايران والمملكة العربية السعودية تتدخّل عبر عملاء لها، وهي ذات نفوذ قوي في الداخل.

أدت الثورات العربية الى إضعاف الدول وأجهزتها وفتحت قنوات تبادل الاشخاص والبضائع والهويات القديمة.

وبسبب الصراع السوري، حصل أكراد سوريا على حكم ذاتي يضاف الى شبه استقلال الاكراد في العراق الذي لن يمنع تداعيات اقليمية، وحتى الآن تمنع الانقسامات بين الاكراد من ظهور جبهة مشتركة. يشعر علويو جنوب تركيا وعلويو طرابلس في لبنان بأنهم مهدّدون في حال سقوط نظام بشار الاسد. بينما السنة في لبنان والعراق يرون فيه انتقاما لعجزهم السياسي.

هل سيؤدي الانفجار الكبير الى مراجعة للحدود الموروثة من الاستعمار؟

من غير المرجح، طالما ان هناك «تابو» كبيرا على الصعيد العالمي خاصة في المنطقة التي تملك اكبر احتياط بترول في العالم. ولكن لن تعود الاشياء كما كانت عليها من قبل. تدرك ذلك شركات عالمية كبرى مثل «ايكسون»، «موبيل»، «توتال» أو «شومرون» التي تتعامل مع الكيان الكردي العراقي دون ان تتكبّد عناء ابلاغ بغداد. يبدو ان الحكومات الغربية بطيئة في استيعابها لانهيار العالم الذي بنته خلال الحرب العالمية الاولى.

(ترجمة رشا أبي حيدر عن «لو موند» الفرنسية)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى