صفحات العالم

نهر الدم السوري الذي يغرق الجميع


شحاتة عوض

كل معطيات اللحظة الراهنة تقول إن المحنة السورية ستطول أكثر مما توقع طرفاها سواء النظام أو المعارضة، فالنظام الذي يراهن على’ إندحار المؤامرة ‘ على سورية والقضاء على ‘الارهابيين’ لا يبدو قادرا على تحقيق ذلك، والمعارضة التي تراهن على إسقاط النظام خلال وقت قصير تستند في ذلك لتمنيات أكثر من كونها مستندة الى رؤية واقعية لما يجري. وبين المعارضة والنظام يتواصل تدفق نهر الدم السوري ليغرق الجميع ويطرح أسئلة محزنة عن الثمن الفادح المطلوب أن يدفعه الشعب السوري لينال حريته ويسترد قراره ويحقق ما خرج للشوارع من اجله؟

خطاب الرئيس بشار الأسد الأخير أظهر بجلاء أن النظام بات منحازا كليا للخيار الأمني وعصا القمع الغليظة ولم يعد لديه غيرها في مواجهة خصومه ومناوئيه ولم يعد يملك شيئا يقدمه سوى حديث عن مؤامرة كبرى على البلاد، وعن إصلاحات شكلية لم يتحقق منها شيء على أرض الواقع حتى على رغم أنها لا تلبي طموحات المعارضة والثوار، وعن حوار وطني يحدد النظام شروطه وأطرافه التي يبدو أنها تستبعد كليا معارضة الخارج وتكتفي ببعض مكونات المعارضة في الداخل. والأمر الذي يدفع لإستبعاد أي حلول في الأفق هو أن النـــظام ينكر أصلا وجود أزمة حتى يمكن البحث لها عن حلــول، فخطــــاب الرئيس السوري الطويل، والذي أعقبه بظهور لافت في ساحة الامويين وسط دمشق، سعى لأن يرسل رسائل عديدة ولاطراف مختلفة، لكن الرسالة الأهم التي حاول إيصالها هي أنه مازال قويا وقادرا الخروج بالنظام منتصرا في هذه المواجهة الجديدة التي يراها مع الخارج وليس مع شعبه.

في المقابل فإن المعارضة في مجملها والتي تنطلق في مواقفها من رفض كامل لفكرة الحوار مع النظام وترى أنه لا بديل عن رحيله وإسقاطه، تدرك أن ذلك غاية دونها الكثير من الدم والوقت والجهد وأن سقوطا سريعا للنظام على غرار ما حدث مع أنظمة إستبدادية اخرى أمر مستبعد. وهذا يعني أن الشعب السوري يبدو مطالبا بدفع فاتورة باهظة ثمنا لحريته .. فالنظاام لايزال متماسكا حتى الآن، فلم يشهد إنشقاقات في بنيته السياسية أو تصدعات في تركيبته الحزبية، كما أن الجيش وعلى الرغم من الانشقاقات المحدودة في صفوفه مازال موحدا ومتماسكا. ربما تكون القبضة الأمنية الهائلة للنظام وربما الارتباط القوي بين مكوناته وأدراكها للمصير المشترك يشكلان عاملا مهما لتفسير صمود النظام حتى اللحظة، وربما تكون التركيبة الحالية للجيش وخريطة القيادة سببا إضافيا في إستبعاد حدوث إنشقاق كبير في صفوفه.وقد يكون فشل المعارضة في إقناع القطاع المتردد من الشعب السوري باللحاق بالثورة سببا ثالثا لإستمرار النظام .. ومن هنا فإن المعارضة إذا كانت تراهن على حدوث إنقلاب أو إنشقاق كبير داخل النظام يؤدي لإسقاطه في النهاية، فان عليها أن تراجع موقفها في هذا الصدد وعلى الأقل ينبغي أن تكون حذرة في هذا الرهان.

خلاصة ذلك أننا أمام طرفين لا يبدو أن أحدهما قادر حتى الآن على الغاء الآخر أو فرض شروطه ومطالبه .. فرغم أن خطاب الأسد الأخير شكل إنتقالا من خانة الدفاع لموقع الهجوم والمواجهة ضد خصومه، فإن النظام السوري يبدو عاجزا عن الغاء حقيقة أن هناك إنتفاضة شعبية عارمة تجتاح البلاد ضده وتطالب باسقاطه، مهما بقي متمسكا بحالة الإنكار التي يعيشها منذ بداية الانتفاضة. أما المعارضة في الخارج والتي تشكل العنوان السياسي لهذه الإنتفاضة ولجانها الشعبية المختلفة، فلا تبدو قادرة على إسقاط النظام بالسرعة التي تريدها، فهي لا تملك عناصر القوة اللازمة لبلوغ هذا الهدف، كما أنها مساعيها لإستقدام تدخل دولي لحماية المدنيين يصطدم بموقف دولي منقسم ومرتبك وموقف عربي أكثر إنقساما وإرتباكا في تعاطيه مع الملف السوري.

وبين هذا وذاك سيبقى مطلوبا من الشعب السوري أن يدفع مزيدا من الدم النبيل ثمنا لثورته التي لا يبدو أن هناك بديلا عنها ولا تراجع بعد كل هذه الدماء التي سالت في شوراع وطرقات وأزقة المدن السورية على يد أجهزة النظام وشبيحته، لاسيما وأن كثيرين يرون أن الأسد أعطى ضوءا أخضر لمزيد من القتل والقمع حين تحدث عن ضرب الجماعات الارهابية بيد من حديد وهو الوصف الذي يطلقه النظام على مناوئيه من الثوار أو من عناصر الجيش الوطني الحر المنشقين عن الجيش السوري والذين يحاولون حماية المتظاهرين من قمع النظام.

وبعيدا عن الأطراف المباشرة للمحنة السورية يبدو العامل العربي حتى اللحظة جزءا من المشكلة لا سببا للحل، فالجامعة العربية التي تشهد إنقساما في صفوف اعضائها والتي تسعى لإيجاد حل للازمة تحت الخيمة العربية يجنب سورية شبح التدويل وتكرار سيناريوهات كارثية على غرار مع حدث في العراق او ليبيا، تجد نفسها بين مطرقة النظام الذي يراوغ ويناور ولا يقوم بخطوات ملموسة لمساندة هذه الدور، وبين سندان المعارضة التي تبدو مشككة في جدوى هذا الدور ولا ترى فيه سوى فرصة للنظام لارتكاب مزيد من الجرائم والقتل.

وتبدو مهمة بعثة المراقبين العرب الذين أوفدتهم الجامعة العربية الى سورية لرصد حقيقة الاوضاع هناك وفقا للبروتوكول الموقع مع النظام السوري، إختبارا مهما وربما الإختبار الأخير لمدى قدرة الجامعة العربية على إيجاد تسوية أو حل يجنب سورية وشعبها شبح التدخل الأجنبي، وإن كان هناك من يرى أن الوقت والوضع على الأرض قد تجاوز هذا الأمر ولم يعد أمام الجامعة العربية فرصة حقيقية للنجاح، فإذا أضفنا الاعيب النظام مع المراقبين العرب الذين أنسحب بعضهم من المهمة، وتشكيك المعارضة في قدرتهم على وقف القتل وحتى تشكيك أطراف عربية في نجاحهم في هذه المهمة، لادركنا أن الأمور لا تسير كما تهوى وتتمنى الجامعة العربية أو على الأقل بعض الأطراف الفاعلة فيها. لكن السؤال هنا هو ا البديل في حال فشلت الجامعة العربية في مسعاها لوقف تدفق شلال الدم السوري على الارض وأيقاف أعمال القتل اليومي للسوريين وإقناع النظام بالالتزام ببنود المبادرة العربية؟ والسؤال الأهم هو ماذا لو نجحت الجامعة في مهمتها الصعبة تلك، هل سيبدو ذلك كافيا بالنسبة للمعارضة السورية؟

في ظني أنه لا يوجد بديل جاهز لفشل الجامعة العربية في حل الأزمة السورية، فالمجتمع الدولي ليست لديه حتى اللحظة رؤية واضحة أو موحدة تجاه ما يحدث في سورية، وهو أمر تدركه كل أطراف الأزمة ، فالنظام ينطلق في مواقفه من إدراك بأن المجتمع الدولي يبدو مرتبكا ومنقسما في تعاطيه المسألة السورية ويراهن على أنه لا يوجد تغير ملموس في الموقف الروسي بشكل خاص والذي يقف بصلابة ضد أي قرار أو أجراء ضد سورية في مجلس الامن ..أما المعارضة التي تراهن على تدخل دولي يحمي السوريين من ألة القتل فإنها لاتريد أن ترى هذا الأرتباك في مواقف المجتمع الدولي وبأن الأطراف الدولية المؤيدة لها مثل أمريكا وفرنسا وغيرهما تكتفي حتى اللحظة بالكلام لا الأفعال ربما إدراكا من هذه الأطراف لمدى تعقيد وحساسية الوضع السوري، وربما وهذا أمر تتحمله المعارضة السورية نفسها، لانها لا ترى بديلا واضحا وموثوقا يمكن التعاطي معه بعد إسقاط النظام في دمشق. ولعل ما يؤكد ذلك ما قاله الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي قبل يومين ردا على إنتقادات المعارضة، من أن المجتمع الدولي لا يحتاج لإذن من الجامعة ليتدخل في المسألة السورية وأن ذلك يرجع لأنه لا يوجد موقف دولي واضح بشأن هذا التدخل.

وحتى في حال نجحت الجامعة العربية في مهتمها المستحيلة في سورية، وأقنعت النظام بوقف أعمال القمع والقتل ضد المدنيين، وهذا ربما يتنافي مع لغة النظام الأخيرة، فان ذلك لن يكون كافيا بالنسبة للمعارضة ومن خلفها المنتفضون والمحتجون والذين بات سقفهم هو إسقاط النظام ولاأقل من ذلك بعد كل من قدموه من تضحيات ودماء. خلاصة القول أن كل أطراف الملف السوري تبدو مأزومة سواء كانت الاطراف المباشرة كالنظام أو المعارضة أو الاطراف الإقليمية والدولية.

فطرفا الازمة الأساسيان ركبا الشجرة ولا يبدو أنهما أو أي منهما مستعد للنزول عن سقفه .. المعارضة لا ترضى بأقل من الإطاحة بالنظام، والنظام لايرى سوى مؤامرة لن يتوقف إلا بالقضاء عليها ودحرها مهما سقط من قتلى ومهما سالت من دماء، والجامعة العربية القت كل أوراقها، والمجتمع الدولي ليس مستعدا بعد أو موحدا حول كيفية التعامل مع ما يجري .. والنتيجة أن نهر الدم السوري سيبقى يفيض وسيلطخ وجوه كل من ماتت ضمائرهم أو فقدوا إنسانيتهم، لكن الأكيد الأكيد أن الشعب السوري الذي خرج للشوارع طالبا الحرية والكرامة والعدل لن يعود قبل أن يحقق ما خرج لأجله مهما كانت فداحة الثمن أو كلفة التضحيات.

‘ كاتب مصري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى