رزان زيتونةصفحات مميزة

نور


رزان زيتونة

منذ أيام ومع اشتداد الحملة العسكرية لقوات النظام على مدينة دوما، كانت أفواج النازحين تغادر المدينة الملكومة. من لم يستطع بقي محاصرا في منزله وسط القصف المجنون. الأخبار تتوارد بلا توقف. تحرير حاجز هنا، استشهاد أشخاص هناك، معارك طاحنة هنا… ووحدها كانت تنام غير عابئة بما حولها وكأنها ملكة الدنيا.

في الحاضنة التي فرغت من الأطفال، والمشفى الذي فرغ من المرضى، بقيت وحدها، تحدق في سقف الغرفة وتتساءل عن ماهية الأصوات التي تأتيها من الخارج. هي لا تعرف اسمها، ولا تتذكر وجه أمها، لكنها تدرك أنها ولدت قبل شهرين من موعد ولادتها، وأن حدثا ما أجبر الجميع على تركها وحيدة في هذا المكان الموحش.

لم تفزع وقاومت..حتى وبمحض الصدفة عثر عليها أحد الأشخاص في تلك المشفى. صغيرة ووردية وغريبة في أجواء الحرب من حولها. اصطحبها الغريب إلى أقرب نقطة استطاع الوصول إليها. احتار عناصر الكتيبة بهذا الوافد الجديد وغير المتوقع. أعدوا لها سريرا صغيرا وسط سحابات دخان السجائر وأصوات الرجال المتعالية كي تطغى على أصوات القصف والمعارك.

باتت الغريبة الصغيرة مع الجيش الحر ليلتها، وأحد العناصر تولى عملية “إطعامها” خلطة الماء والسكر التي أعدها لها.

في اليوم التالي، تدبر الشباب أمر نقلها إلى أقرب نقطة للنازحين، حيث تتوفر نساء مرضعات.

احتفى الجمع بها، وكأن السماء التي لم ترم لهم إلا القذائف منذ أشهر طويلة، انفتحت على هدية صغيرة وردية غريبة وغير متوقعة.

تناقلتها أيدي النساء. كل تحاول إرضاعها، وكأنها بذلك تعيد الحياة إلى أحبة رحلوا بنيران الظلام. ارضعي يا صغيرة ارضعي.. وأعيدي لنا شيئا من الحياة.

والصغيرة الوردية الغريبة تأبى أن تتذوق حليب الأمهات. لكنها يجب أن تأكل، يحاول الجميع اقناعها عبثا.

تدبر الأصدقاء أخيرا نقلها إلى أقرب نقطة للهلال الأحمر. لم يكن المسعفون هناك بقادرين على مساعدتها لأنهم نقطة اغاثية وليست طبية. أجرى الأصدقاء اتصالاتهم وتدبروا أمر نقلها إلى منزلهم.

هناك تناقلتها الأيادي من جديد. أيادي الأمهات والأخوات والبنات اللواتي غص بهن المنزل. هن أيضا نازحات مثل الصغيرة الوردية. بكت الأم وبكت العمة وبكت الخالة وبكت النساء جميعا. كلما نظرت إحداهن إلى الصغيرة بكت. وهن يحاولن إطعامها الخلطة السحرية، خلطة الماء والسكر.

أخيرا تدبرت العائلة أمر نقل الصغيرة إلى المشفى، بعد الاستقرار على اسم لها. صار للصغيرة اسم و”هوية”!

انتقلت نور الصغيرة إلى المشفى، وفي تلك الأثناء كان أحد أخوالها قد تدبر أمر الوصول إلى المشفى للسؤال عنها، ووجد ملاحظة تخبره بنقلها إلى المكان الفلاني. توجه إلى هناك وبقي يتابع الأوراق الصغيرة التي لصقت في أماكن نزوحها حتى وصلت إلى العائلة التي أودعتها الحاضنة في المشفى.

تبين أن العائلة عالقة في مكان ما في المدينة تحت القصف. أخيرا تمكنت الوالدة من الاتصال بالعائلة المضيفة. كانت تبكي بحرقة. وتتوسل للناس الطيبين أن يعتنوا برضيعتها.

وكان الناس الطيبون يتعاطفون مع الأم الحزينة. لكنهم لايجدون سببا للقلق على نور. في اليوم الواحد تردهم عشرات الاتصالات، من الشباب والرجال والنساء الذين حطت نور رحالها عندهم خلال رحلة نزوحها القصيرة.

أصبحت نور أشهر من نار على علم. أصبحت نور أملا يتمسكون به جميعا، ويبكون لمجرد التفكير به. ويقول الصديق الطيب الذي عرف نور وعرفتها عائلته قبل إيداعها الحاضنة، أن نور تمنحه السكينة تجاه كل ماحل بهم. بيوتهم التي تدمرت، الأحبة الذين فقدوهم، القادم المجهول، وكل شيء كل شيء.

لاتزال نور في الحاضنة بانتظار لم شملها مع عائلتها. لا تزال جماهير نور تتلهف للسؤال عنها والاطمئنان على حالها. ونور تفتح عينيها الصغيرتين يوميا تتأمل ما حولها، تبتسم وتنام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى