نوستالجيا الاستعمار/ دلال البزري
سالفة يتداولها الأفريقيون هذه الأيام، وهي ليست اختراعاً، بل قول اشتهر به أحد البسطاء السنغاليين، من دون أن يدري بأنها سوف تكون لازمة أقرانه في القارة كلها، بعد عقدين من الزمن. من ضيق حال “إستقلال” بلاده، ومن طيبته، كان يود أن يظن، بأن هذا إستقلال إنما هو مجرد مرحلة من الزمن سوف تمر، وتعود من بعدها الحقبة الأصلية، الإستعمارية، المزدهرة، فيسأل: “متى يعود الإستعمار؟ ألا يكفي عشر سنوات من الإستقلال؟”. يومها، أي منذ عقدين، لم يكن لكلمته صدى جماهيرياً. فالجماهير كانت لا تزال تعيش الإستقلال عن فرنسا أو بريطانيا، تماماً مثلما يُغرمون… فيتعامون. لكن الآن، بلغت الأوضاع الأفريقية من الفساد والفقر والتنازعات الدموية حدّاً صار استدعاء قول الأفريقي البسيط فعل يأس، يأس من إمكانية تحسن أوضاعهم يوماً ما؛ تحسناً وعدت به “المرحلة” الاستقلالية، فلم تفِ بشيء… بل عمّرت خراباً.
نتقاسم، نحن العرب من الذين “مروا” بالـ”مرحلة الإستعمارية”، حنيناً شبيها لذاك الذي يغوص فيه الأفريقيون الآن؛ فنحن، من قبلهم أو ربما من بعدهم، أقل الشعوب سعادة باستقلالها؛ أكثرهم فشلاً بـ”مرحلتها” الإستقلالية، أو أقلهم بقليل. وحنين بهذه القوة نعبر عنه بكلماتتنا، بتنهيداتنا، بتذكّرنا، بمشاهداتنا اليومية لما يدور حولنا، القريب منه والبعيد. نقول بالكلام والإشارات، رغم العداوة التي ما زال يحتفظ بها جلُّنا ضد الإستعمار، القديم والجديد. ونقولها بالمرجعية التي ما زلنا نعتمدها إزاء هذا الاستعمار؛ نستشهد بالأميركي أو الأوروبي، لتصديق زعمنا عن إنتصار لنا أو عن حق من حقوقنا، أو عن وحشية عدو. نسترشد بنظامه السياسي، البحثي، العلمي، الاجتماعي، الفني…. كل هذا ما زال مرجعنا، الضمني أو المعلن، أو حتى المطمور في متون عبارات العداوة والمحاربة لهذا الاستعمار “البغيض”. لكنه حنين. لأننا نقولها بالكلمات الجافة الصريحة، “رزق الله على أيام الاستعمار”. ونفعلها أيضاً. سواء كنا من الهاربين الأكابر أو المعدومين، سواء كنا نطير بالدرجة الأولى او نركب مركباً غير شرعي، يقوده تجار أرواح لعبور المياه الفاصلة بيننا وبين الغرب…
وأبناؤنا؟ الى أين نهرّب أبناءنا؟ نبعدهم عن أشباح الموت والفقر والتشرد؟ الى باكستان؟ ايران؟ مدغشقر؟ أم الى معاقل الإستعمارَين، القديم والجديد، أو ما يدور حولهما؟ بكل هذا، ومن دون العقدة الأبدية القاضية بـ”عدم جلد الذات”، فان درجة النوستالجيا للإستعمار عندنا بلغت في الأوان الأخير أعلى درجاته؛ ذلك، بكل بساطة لأن تردّي أوضاعنا بلغ، هو أيضاً، أعلى درجاته.
هل يعني ذلك بأننا لسنا جديرين بحريتنا، باستقلالنا؟ بأننا ما زلنا مستعمرين من داخلنا، عبيد سريين للغرب؟ عبيد سابقين لم يتخلصوا من عقدة تفوق “الرجل الأبيض”؟ الجواب نعم على الأسئلة الثلاثة. نحن موضوعياً، وبصرف النظر عن تطلعاتنا وتمنياتنا التحررية، في موضع الفاشل، العاجز عن إيجاد طريقة يحكم بها، حتى لو كانت “مستوحاة” (أو بالأحرى منسوخة) من أعرق تجارب هذا الاستعمار، القائمة على ديموقراطية ودولة وقانون ومؤسسات الخ. الآن ننتبه الى أن الأنظمة الإستقلالية لم تبنِ سوى مفخخات تنفجر لحظة الإحتكاك بها؛ مفخخات بالمعنيين الحرفي والمجازي؛ ما أن مسّتها أصابع المطالبة بالديموقراطية حتى تحولت الأشلاء البشرية في الساحات الى مشهد شبه يومي.
ماذا أعطى الإستعمار لنا، غير القهر والاستغلال ومصادرة القرار الوطني، الذي لا نستحقه على كل حال؟ بماذا نذكره عندما نتأمل بحالنا؟
بعدما رضخ لمطالب الإستقلال وانسحب عن أراضينا، خلف لنا مؤسسات ومناهج ومبان وذوق ونمط حياة ورؤية جديدة للمرأة والرجل؛ بعضه في ذاكرتنا وبعضه ما زال حيّاً والآخر تطور وتابعناه. وهذا كله يحسب لإرثه. لولاه لكنا اليوم كلنا إخوان مسلمين أو جهاديين أو سلفيين أو صوفيين أو أولياء؛ علما بأن كل هؤلاء متأثرون بالغرب، علمياً، ثقافياً وإعلامياً… يغرفون من معينه ليدعوا الى دولة ما قبل التاريخ… وهذه قلّة نزاهة فكرية من النوع الذي يحسدون عليه، على راحتهم فيها.
خذوا مثلا دول الربيع العربي: كلما ابتعدت تجربة بلد بعينه عن ثقافة الإستعمار، كانت حصانته ضد الفوضى والإنقسام والتكفير أكبر. من ليبيا واليمن، حيث الإرث الغربي شبه معدوم، تسود الفرقة والميليشيات و”القاعدة”… وكلما اقترب البلد من الإستعمار القديم، تونس مثلا، كانت قوة الشرائح الحداثية، النسبية، تخلق توازناً، نسبياً أيضاً، مع الإسلامية السياسية… وتحول دون انتزاعه نحو الظلامية أو الاستبداد، أكثر فأكثر…
الإرث الإستعماري تحجب قيمته أيضاً تلك التيارات اليسارية والقومية التقليدية. فكما الإسلاميين، يكره اليساريون والقوميون الإستعماريَن، الجديد والقديم؛ لكنهم لا يتضايقون من الغرف من كل قاموسهما المفردات اللازمة لـ”نضالهم” الدونكشوتي، المزعوم، ضدهما. وهذا لا يثنيهم عن وصف أي مصاب بالحنين الى الإستعمار بأنه عميل أو متخاذل أو مسلوب الحرية الخ. فعل الايمان “الوطني”، “الاستقلالي”، لا يسمح بالتلويح بالحنين الى الإستعمار إلا خلف الكاميرا. وهذه من الإلتواءات التي أصابتنا بها “المرحلة” الاستقلالية. مكابرة مستمرة وانتصارات تزيح الأنظار عن دربها، وانفصامات بين الشخصية العامة والشخصية الخاصة…
حسناً. هل يستحق الإستعمار كل هذا الحنين؟ وبصرف النظر عن قوة دوافعه؟
نعم ولا.
نعم لأن ما ورثناه عنه هو أفضل ما كان للبشرية ان تطاله، بكل مقوماته الحضارية، من إجتماع وسياسة وتربية ونمط حياة ورؤى… ورثنا إرث الحداثة في طوره المتفائل المؤمن بالتقدم. وما تقدمه دول الاستعمار والامبريالية الآن الى البشرية، من مزيج حداثي ونقد ما بعد حداثي، ومن ديموقراطية مستقرة رغم العيوب والجرائم والإنحرافات والأكاذيب… كله هو الأقل همجية من بين ما تقدمه الشعوب الأخرى. ولا ينفي أبدا نسبيته ونسبية حقائقه، وتلاعبات السياسة الخارجية، القائمة على دراسة مصلحته (“المصلحة”: تلك الكلمة المعيبة في قاموسنا). نعم، أيضاً، انه حنين مشروع، لأنه يقوّي شوكة مقاومة الهمجية الزاحفة الينا، مقاومة الأكاذيب والبشاعة والعنف والإجرام باسم الدين. طبعاً هناك من سوف ينعت هذا الكلام بما هو معهود، من دون أن يدرك بأنه يحاكي زمناً آخر، ما قبل الثورات، عندما كان الشجب اليومي للإستعمار مادة باطونية لبناء الأنظمة التسلطية ودول اللاقانون واللامؤسسات. اما الآن، وبعدما تعرّت الكذبة الإستقلالية من أوراق توتها، عاد الزمن الاستعماري الى الواجهة، بصفته زمناً معقولاً، يمكن العيش في ظله من دون هدم البشر والحجر، من دون هدم الضمائر. بل سوف يطيب في ظل الإستعمار النضال من أجل الاستقلال مجدداً… وقد يأخذ منحى آخر. من يدري؟
لا، من جهة أخرى، لا يستحق الإستعمار السابق واللاحق كل هذا الحنين. نسبيته تعلمنا عدم الإنجراف نحو حقائق نهائية. صحيح انه قد يفيد لمواجهة التقهقر العربي، ولكنه من عالم الماضي، هو ايضاً. وإرثه الذي نفتخر بحمله مثل غنيمة حرب، هو بدوره مجرد إرث. ومع انه إرث قريب، ما زالت نداوته حية في ذهننا، فيما المطلوب منا أن ننقده، أن نبيتئه (من بيئة) أو أن نتثاقف معه. ولأن الحنين لا يصنع مستقبلاً. ولأسباب أخرى أيضاً، قد تدفعنا إلى مراجعة أدبيات مناهضة الإستشراق، التي أعمت بصرنا طوال عقود محاربة الشرّ المطلق، الإستعماري، الإمبريالي، الصهيوني.
ومراجعة إرث معاداة الاستشراق تطول، دونها معرفتنا نحن لتاريخ هذا الشرق.
المستقبل