نيوليبرالية وثلاث ثورات متلاحقة/ عمّار ديّوب
منذ أن تقدمت الليبرالية الجديدة كبديل عن دولة الرفاه المأزومة في أوروبا وأميركا، وفرضت نفسها عالمياً، بعد إفلاس الاتحاد السوفياتي وتلاشيه، برزت ثلاث ثورات متلاحقة: الأولى في أميركا اللاتينية، فقد تقدم اليسار وكانت البرازيل التجربة الأقوى من ناحية تقليص الأزمات الاجتماعية الاقتصادية وتعزيز النظام الديموقراطي. والأسوأ ربما كانت التجربة الفنزويلية، حيث على رغم اعتماد الانتخابات للوصول إلى السلطة، وتقليص الفوارق الطبقية جزئياً، بقيت هذه التجربة الأردأ بنتائجها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولكن بسبب الأزمة العميقة لفنزويلا بدا تشافيز بمثابة المخلص، وإن فشل في تجاوز المشكلات. بقية التجارب اليسارية لم تُحدث تغيرات كبيرة، لكنها تبقى أفضل من أنظمة العسكر ومن جمهوريات الموز التابعة لأميركا تبعية كاملة.
وكانت حركة مناهضة العولمة على هامش هذه الاندفاعة الشعبية، ولكنها ظلت ذات مواقف اعتراضية، فسلطت الأضواء على مخاطر السياسات الليبرالية الجديدة المترافقة مع العولمة، وحشدت فئات متعددة من الفقراء والمهمشين بل أحياناً من اليمين الرافض لطغيان النزعة الأميركية على الهويات الثقافية المتمايزة للشعوب.
الأزمة المالية بدءاً من 2008 لم تنتج حركات اجتماعية واسعة. وحتى حركة وول ستريت خمدت خلال زمن قصير، وتبيّن أنها محدودة الأفكار والفعل. ولكن الأزمة لم تنته، وها هي تنفجر بعنف في اليونان وجنوب أوروبا وربما لاحقاً في شرق أوروبا.
الثورة الثانية كانت في البلدان العربية، وجاءت بعد اعتماد السياسات النيوليبرالية في شكل كامل، وبالتنسيق مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكانت آثار هذه السياسات مدمرة للزراعة والصناعات البسيطة ومتراجعة عن كافة الخدمات الاجتماعية للفقراء، مع ارتفاع نسبة البطالة في شكل كبير، وهذا ما حرك المجتمع التونسي بشرارة جسد البوعزيزي، ليثور الشعب في كل مدن تونس ويسقط سلطة زين العابدين خلال واحد وعشرين يوماً. وكانت مصر قد شهدت منذ 2004 أكبر عدد من الاحتجاجات العمالية عالمياً، وكذلك احتجاجات لفئات اجتماعية مختلفة. تجلى ذلك بثورة شعبية عارمة، أنهت السلطة القديمة ولكنها لم تستطع استلام السلطة، ومن ثم توقفت. وبعد ذلك أصبح وضعها قلقاً، وقابلاً للتفجر. وهنا نجد أن النظامين التونسي والمصري لم يتجاوزا المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي سببتها السياسات الليبرالية، والبلدان لا يزالان معرضين للتفجر. لقد تمايزت تونس جزئياً ولا سيما في حقل تداول السلطة، حيث فشلت مصر. أما باقي الدول العربية كسورية واليمن وليبيا والبحرين فلا تزال تراوح في المشكلات ذاتها، وإن اتجه الوضع السوري والليبي وربما اليمني نحو حروب مذهبية وطائفية ومناطقية، نظراً لشدة التأزم المجتمعي على كافة المستويات.
وبالتالي لم تكن حصيلة الثورات العربية لمصلحة الشعوب المنتفضة، بل تراوحت ثمارها بين إعادة إنتاج النظام القديم وإن بوجوه جديدة، أو دفع المجتمع بأكمله نحو التمزق والتفتت والهويات الدينية والحروب. ولم يتغير شيء في خصوص السياسات النيوليبرالية. فتونس عادت لتنفيذ شروط المصارف الدولية، ومصر تأخذ الأموال من دول الخليج، وسورية وليبيا تكادان تتلاشيان كدول وتتحولان دولتين فاشلتين.
أما الثورة الثالثة، فتمثلت في انتصار اليسار الراديكالي في اليونان، وجاء ذلك على خلفية فشل السياسات النيوليبرالية التي لعبت دوراً مركزياً في نهب ثروات اليونان، وأغرقتها بالديون، وتحقق كل ذلك لمصلحة المصارف المسيطر عليها من ألمانيا وفرنسا وبعض الحكومات الأوروبية الغربية. ويشكل الانتصار رداً شعبياً على سياسات الإفقار فيما الخوف الألماني من اليسار الأوروبي، خوف من تمدّده إلى أكثر من دولة أوروبية. وهذا أمر محتمل في ضوء تزايد المشكلات الاقتصادية والاجتماعية.
فاليسار هناك يعبر عن مشكلات الشعب الآنية، وبالتالي برنامجه إصلاحيٌ، لم يتضمن أهدافاً عن إسقاط الرأسمالية، وهو تقريباً برنامج اليسار نفسه في أميركا اللاتينية. في منطقتنا العربية لا شيء من ذلك لأسباب عدة منها أزمة اليسار وليس أزمة قيادته فقط، ومجمل التكوين الاقتصادي المتخلف وغياب أي فعالية نقابية وطلابية مستقلة. أضف أن صفة الاشتراكية للنظام في سورية وسابقاً في ليبيا، لعبت أسوأ الأدوار في ما يتعلق بالموقف من كل ما هو يساري، على رغم أن عناصر اليسار السوري ولا سيما المنظمة الشيوعية العربية وحزب العمل الشيوعي وحزب المكتب السياسي، حزب الشعب حالياً، واليسار القومي المعارض، سُجنوا كلهم، من دون أن يستطيع ذلك إسقاط صفة الاشتراكية عن النظام المدعوم من الأحزاب الشيوعية السورية «النظامية». وبالتالي ظهر اليسار الجذري في المنطقة العربية هامشياً وضعيفاً على رغم أن الثورات تفترض دوراً رئيسياً له فيها. وهنا نستثني تونس جزئياً، حيث علينا قراءة تجربتها على كافة المستويات، ليتبين لنا سبب هذا التمايز: فإسلاميوها تمايزوا ونظامها المنهار تمايز وكذلك يسارها!
* كاتب سوري
الحياة