هارب من “دولة الخلافة”: يوم بايعت البغدادي/ أيهم الحسين
لا يمكن تصوّر حجم الكارثة التي حلّت بنا وبأطفالنا تحديدًا، بالأمس قرأت منشورًا على فيسبوك لأحد الأصدقاء يروي فيه قصّة طفل يبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، قضى في عملية انتحارية في الموصل بالعراق، وقبلها رأيت آخر في العمر نفسه، وقع أسيرًا بيد الجيش الحرّ في حلب، هذا كلّ ما سمعت قبل أن أشاهد إصدارًا لـ “داعش” خُصّص للأطفال، وتم تصويره في مدينة للألعاب، أبطاله أكبرهم لم يتجاوز الثالثة عشرة وأصغرهم لم يتجاوز عمره عمر الخلافة المزعومة، يقومون بعمليات ذبح وقتل في حق عدد من الرجال، ما زالت أصوات بعضهم- الضحايا المقتولين- تصدح في المكان وتمتزج بضحكات -الضحايا القاتلين- يتردد صداها في أذن كل من سمع ورأى.
خمسة عشر يومًا، كانت الساعة ثقيلة جدًا بعدما وصلتني رسالة “واتس أب” من أحد الأقارب، يُخبرني فيها أنه في طريق الخروج من مدينة الرقّة إلى تل أبيض شمالًا برفقة مهرّب ابن حلال (خاف يصير شي لا سمح الله يكون عندكم علم)، وانتهى الحديث على عجل بالدعاء وتيسير الطريق.
لم أكن أعلم بالمدّة الكافية لوصولهم إلى برّ الأمان، حتى وردني اتصال منه يخبرني بوصوله إلى تل أبيض، قاصدًا بيت أخيه، قائلًا: “لا تقلق علينا، إللي ما قتلته داعش ما تقتله وحوش البرية”.
بداية الرحلة
استطرد صديقي حديثه يصف رحلته: بعدما أرسلت لك لأخبرك بخروجنا، اتجهنا شمالًا ومشينا ليلة كاملة قطعنا فيها أراضي زراعية تقع على يمين حاجز تابع لتنظيم “داعش”، كنا نراهم من بعيد يتحرّكون ويترقّبون فريسة يفوزون بها، تهامس الكل للابتعاد عنهم، لتختلط الأصوات بين حركات الأقدام والأنفاس ويقطعه صوت نباح كلب كان يقترب منّي، ويقف أمامنا ببضعة أمتار نرى بريق عينيه، تقدّمنَا المهرّب بغية إسكاته بقطعة لحم كان قد جلبها معه لموقف كهذا، ليخرج إلينا رجل يتوسّل أن نتركه وعائلته في حال سبيلهم بعد أن انقطعت بهم السبل وسط الطريق على مقربة من عناصر التنظيم المتمركزين في الحاجز القريب.
أحزنني خوفه وتوسّله وعجزي التام عن فعل أي شيء، كان الموت أرحم من نظرات الأطفال إليّ، من الصعب أن ترى تفاصيل حزنهم على وجوههم، أسكت المهرّب الرجل المذعور بوضع يده على فمه، وهمس في أذنه أن طريقنا واحد “اهتم بعائلاتك واتبع خطانا للخلاص”.
كنت آخرهم في المسير، أُمسك بيد ولدي الوحيد ذي الأربع عشرة سنة، وزوجتي تمسك بالطفلتين، وتلك العائلة تسبقنا يتقدّمنا المُهرّب، كان الكلب يلتف حولنا أثناء المسير لا أعلم سبب توقّفه عن العواء ولحاقه بنا، لعله رأف بحالنا وأخرسه قهرنا، لا أعلم لكنه كان رفيقنا للخلاص.
قطعنا مسافة 30 كيلو مترًا تقريبًا مشيًا على الأقدام، بين القرى والأراضي الزراعية حيث كان ينتظرنا جرّار زراعي في آخر محطة للهروب، أكملت له النصف المتبقي من المبلغ المتّفق عليه، 300 دولار، وتابعت تلك العائلة طريقها إلى قرية قريبة يسكنها أقارب لهم.
ركبنا (تراكتور) جرارا زراعيا، أحبته طفلتاي كثيرًا، ولم أتوّقع أن يعلو صوت ضحكهما بعد عذابات ووحشة الطريق، تمايل جسداهما مع وعورة الطريق لأولى القرى، حيث تسيطر مليشيا وحدات حماية الشعب الكردية.
الهرب من “عاصمة الخلافة المزعومة” إلى “بلاد الكفر”، هي تهمة ينتهي الأمر بصاحبها في سجون الظلام، أما المهرّب فقد “هتك عرض الأمة الإسلامية” بتوفير الطريق له، وحكمه أن يقتل ويصلب لثلاثة أيام حتى يكون عبرة للناس.
في “بلاد الكفر”
عند خروجك من سيطرة الرايات السوداء “داعش”، إلى مناطق سيطرة الانفصاليين “وحدات الحماية الكردية”، يبدأ ظلم جديد بلون جديد، ومعاناة مثقلة بالتهم البائسة، التي توجّه فقط إلى أهل الرقّة ودير الزور، ذنبهم الوحيد أن القدر رماهم في يد المتطرفين، ولا يمكن الدخول إلى مناطق الانفصاليين إلا بكفالة تضمن عدم “دعشنتك” في المنطقة.
مسلّحون فرقتهم الرايات والتوجّهات، وجمعهم الظلم بألوانه المختلفة، تجد العائدين إلى الرقّة ودير الزور متّهمين بالعمالة والتخابر مع الكفار والصليبيين، وللخارجين منها، تنعكس التهم الموجّهة إليهم في منظور الإنفصالين ووحدات الحماية الكردية.
أجلسونا في غرفة بجانب الحاجز إلى حين حضور كفيل، سمحوا لي بالاتصال بأخي، كانت الأوراق التي وقع عليها تشبه تلك التي في السفارات، تُلزم الكفيل بكل شيء يتعلّق بنا وتبرئتنا من”الدعشنة” بكفالته، لم أشعر بالأمان حتى وصلنا إلى بيت أخي.
عرّجت بسؤالي عن أسباب خروجه من الرقّة، كونه من رافضي فكرة الخروج من المدينة رغم سوء الأحوال هناك (خليها لربك)، وأنه وقع بين أمرين أحلاهما مرّ علقم، حاول التملّص من الإجابة حتى زاد إلحاحي عليه.
في البداية غمرني شعور جميل بعد مشاهدتي لولدي يتلو آيات من القرآن الكريم، شجّعته ولم أكن أعلم عواقب الأمور في ظل تواجد “داعش” وحاجتهم للأطفال، كونهم ورقه بيضاء يكتبون فيها ما يشاؤون، أصبح الولد يقضي معظم وقته في الجامع القريب من البيت، وفي كثير من الأحيان كنت أذهب للجامع ولا أجده حتى يعود في نهاية اليوم مؤكدًا وجوده في الجامع عند سؤالي عن غيابه.
حاولت منعه بطرق سلمية لكن كان جوابه صادمًا، أتمنعني من بيت الله يا أبي، والله لو علم رجال الحسبة بك لفعلوا بك مثلما فعلوا بجارنا أبو خالد “صلبوه ليومين”، لم أستطع الإجابة عليه خوفًا منه وعليه منهم، لاحقًا أيقنت أنهم ملكوا عقل الطفل، فأصبح قنبلة موقوتة في البيت لا أعلم متى تنفجر أو تختفي في عملية انتحارية، كسر حاجز الخوف معي وبدأ يُعلي صوته في البيت على والدته وأختيه في لباسهم وتحرّكاتهم. حاولت التودّد إليه مرّة أخرى بذكر أحاديث عن بر الوالدين وعواقبه لَعلي أصيب قلبه ليعود إلى رشده، أطلت الحديث معه ولم يقاطعني حتى أحنى رأسه إلى الأرض، ظننت أني استرجعت ولدي الحبيب، ليرفع رأسه ويطلب مني أن أذهب معه لأبايع أمير المؤمنين الخليفة أبو بكر البغدادي، وواجب عليه أن ينصحني بذلك، أحسست بشعر جسدي قد انتصب وأحمر وجهي، ضاع كل شيء حتى الكلام، لم أستطع الرد عليه، حتى أني قد خفت منه، أصبح يردّد أحاديث دسّوها في رأسه بوجوب البيعة ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية.
مبايعة أبو بكر البغدادي
وافقت دون تفكير، أردت إسكاته بأي شيء حتى لا تقع كارثة، ليحضنني بشدة والتكبير ملأ أرجاء البيت، خرج لأمه ليخبرها بموافقتي على البيعة، لم أكترث لصراخه على أمه التي صرخت قبل أن تخفض صوتها فهو عورة.
بعدها أردت فعلًا أن أبايع حتى أكسب ثقة الولد قليلًا، لعلي أهرب به إلى الخارج، وحصلت على البيعة من مندوب موكّل بهذا الأمر، كان مهاجرًا من المغرب العربي، ابتسم لي وأخبرني بلزوم الحضور لدورة شرعية حتى أتعرّف على ديني أكثر. ابتسمت له وأبديت استعدادي، لم أشاهد ولدي بهذه الفرحة من قبل، حتى أنه ذهب يخبر أصدقاءه أني بايعت الخليفة.
لم أنم ليومين مفكرًا في طريقة للهرب، حتى اخترعت كذبة بيضاء، كانت اللجوء إلى خبر وفاة عمّه في تل أبيض ويجب علينا تقديم العزاء والعودة بعدها للرقّة، علينا الذهاب بسرعة حتى دون أن نخبر أحدًا كيلا يتعرقل الأمر، نجحت الفكرة، اقتنع وبدأت رحلة البحث عن مهرّب يخرجنا كأنني أبحث عن إبرة في كومة قش، بعدها أرسل لي أخي من تل أبيض رقم شخص ليساعدني، وها أنا الآن في تل أبيض “والعجي يبجي عليش كذبنا عليه”، خوفي تغيّر الآن، إن علم الانفصاليون “وحدات الحماية الكردية” بالأمر أو بدا لهم تصرّف أرعن يقوم به ابني، سوف يخفونه إلى حيث لا عودة.
أعلم أنني ربّما أضعت الولد، وامتلكوا عقله هو وجيله وأصبحوا “قنابل موقوتة” ومشاريع إرهاب مستقبلية، لكن ما العمل؟
لم نكن نحن “المرتدّين” حسب وصف التنظيم، بل نحن الضحايا أو المدنيون القابعون تحت سيوف “الدواعش” وطائرات العالم، والأطفال الذين غُسلت عقلوهم هم أكبر الضحايا وأكثرهم، لا أحد يدرك حجم هذه الكارثة أو عواقبها التي ستقع على الكل، وعلى كل العالم الذي دعّم وغضّ الطرف عن التنظيم وعن الأهالي وعنا نحن أيضا “الضحايا”.
جيل