صفحات العالم

هدنات النظام السوري والمعارضة… التقاط أنفاس ونوايا مبيتة

 

يتعامل النظام السوري مع المناطق الخارجة عن سيطرته والمستعصية على الحل الأمني العسكري، بسياسة “القُطعة”، فيقيس أهميتها بمقدار تأثيرها على فهمه لمنطق سيطرته الجغرافية وسياسته الأمنية العسكرية، التي تقوم على إخضاع السوريين وتحويل ثورتهم إلى نكبة، لينفضّوا عنها ويعودوا إلى “بيت الطاعة”.

من هنا، يولي النظام أهمية فائقة لإخضاع مناطق دمشق وريفها الثائرة، مثل حي برزة والقابون وجوبر والقدم وبلدات ريف دمشق القريبة من مركزه ومؤسساته الأمنية والحكومية والرئاسية، كبلدة المعضمية المتاخمة لمطار المزة العسكري، حيث يوجد سجن كبير تديره المخابرات الجوية، فضلاً عن مستودعات ذخيرة ومهابط للحوامات التي تمطر الريف ببراميل الموت يومياً، وقرب المعضمية من مقر الفرقة الرابعة التي يقودها فعليا العميد ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري بشار الأسد.

وسبق النظام أن جرّب أساليب عدة للتفاوض مع أهالي المعضمية، وتوصل أكثر من مرة الى عقد هدنات أو تسويات سرعان ما فشلت، بسبب عدم وفاء النظام بتعهداته، وأيضاً بسبب عدم توحُّد المعارضة المسلحة.

وعادة ما تبدأ هذه الهدنات برفع العلم النظامي على مبنى البلدية في المنطقة الثائرة، وبالاتفاق على إدارة أبناء المنطقة لشؤونهم مع بقاء أسلحتهم الفردية، وتسليم أسلحتهم المتوسطة والثقيلة، مقابل رفع الحصار الاقتصادي عن البلدة وإعادة الكهرباء والماء وإطلاق المعتقلين من أبنائها، ولكن سرعان ما تُقوَّض الهدنة عندما يقوم النظام بحملة ملاحقات أمنية جديدة يعتقل فيها الشباب الثوار بدل أن يطلق من كان محتجزاً.

وتقوم استراتيجية النظام على الاستفادة من الهدنات بعزل البلدات الثائرة عن بعضها، كحالة المعضمية وداريا المواجهة لحي المزة، وإحدى بوابات دمشق، ومنها بدأ النظام سياسة “الجوع أو الركوع” بعدما قام بمحاولات عدة لاقتحامها واعلانها “منطقة محررة”، وصلت إلى حد زيارة الرئيس بشار الأسد لها، كزيارته إلى حي بابا عمرو. ومع ذلك، ظلت بعض أحياء داريا حتى هذه اللحظة، تقاوم، ويحاول النظام التفاوض على هدنة فيها.

كذلك، حاول النظام أكثر من مرة، عقد تسويات، وهو يستعمل مصطلح “المصالحة الوطنية” مع أهالي قدسيا لقربها الجغرافي إلى عدد من كتائب الحرس الجمهوري ومساكن ضباطه في العرين، وطبعاً، فشلت هذه التسويات، وبعض أسباب الفشل يعود الى أن من فاوض ثوار قدسيا لم يكونوا من أصحاب القرار الفعلي في النظام (وزير المصالحة الوطنية علي حيدر)، وعدم قبول الأمنيين الفاعلين لمنطق الحوار والمصالحة، فيقومون بعدم الالتزام بها وإسقاطها، وحتى إقصاء وتهديد من يحاول تعميمها.

أما في مخيم اليرموك بدمشق، فقد فشلت مساعٍ عديدة لإنهاء أزمة المخيم وكارثته الإنسانية، بسبب عناد النظام و”الجبهة الشعبية ــ القيادة العامة”، أن تكون هناك فترة اختبار طويلة بعد قيام المجموعات المسلحة غير الفلسطينية بالانسحاب من المخيم، وهو ما حصل بالفعل. إلا أن تأخر النظام بتحقيق بنود التسوية، جعل هذه المجموعات تتراجع عن الانسحاب وتعود للمخيم مرة أخرى.

اذاً، الأولية عند النظام هي للمناطق المحاذية لدمشق، لأنه يعتبر أن سقوط دمشق نهاية له. من هنا، انصبّ جهده على إخضاع هذه المناطق القريبة، والممتدة من قدسيا الى المعضمية وداريا الى القدم، فالمخيم والمليحة وحي جوبر الملاصق لحي العباسيين، ومن ثم برزة والقابون. وقد حاول النظام، عبر وجهاء دمشقيين ينتمون إلى هذه الاحياء، أو عبر رجال الاعمال المتحالفين معه، أو عبر سياسات الاغراء أو الحصار الاقتصادي أو الحملات العسكرية والأمنية الشديدة، كسر إرادة الثورة في هذه المناطق، وتحقيق تسويات يستفيد منها بكل الأحوال، سواء بدفع الخطر عن دمشق، أو بإشعال الخلافات داخل بيئة الثوار وفيما بينهم.

كما قام النظام بتكثيف جهوده على مناطق أخرى، فضلاً عن ترك الانطباع بهرولة الثائرين لعقد هدنات معه، وبالاستفراد في كل منطقة وحي، مما يعني التعامل مع الثورة السورية، وكأنها سلسلة مطالب محلية معاشية يلبي النظام ما يريد منها، ويتجاهل ما لا يناسبه منها.

وحاول النظام دائماً تسويق هذه التسويات والهدنات إعلامياً، فنشر صوراً من العناق والقبلات، كما حصل في حالة بلدة ببيلا بريف دمشق، وهو ما يوحي باستتباب الأمور له نهائياً. الا أن هذه الهدنات سرعان ما انهارت، لأنه لم يكن هناك اجماع من فصائل الثوار على تحقيقها، ولا النظام جدي بالتعامل معها، فهي بالنسبة له للاستهلاك الإعلامي ليس إلا.

وهذه الأيام، يحاول النظام عقد هدنة في منطقة الزبداني ليستكمل سيطرته على جبال القلمون والمناطق الحدودية مع لبنان. إلا أن جهوده تصطدم بعدم موافقة بعض الفصائل الموجودة في المنطقة، وإصرار جيش النظام على تسليم مقاتلي المعارضة أسلحتهم.

ويعتبر النظام ما حصل بالنسبة لأحياء حمص القديمة، نجاحاً لسياسة التجويع والحصار، وفرضأ لشروطه وسياسته الامنية. وبذلك، يكمل السيطرة على مدينة حمص، ويؤمن طريق الساحل بعد سيطرته على قلعة الحصن. وهنا أيضاً، نقض النظام التسوية التي عقدت مع المسلحين في القلعة، لإتاحة الفرصة لخروجهم، فقام بتنفيذ كمائن لهم بعدما قاموا بالانسحاب من القلعة الحصينة.

أما في مدينة حلب، وبعدما قبل النظام بالتفاوض مع المجموعات المعارضة المسلحة، وفي مقدمتهم “جبهة النصرة” لإعادة التيار الكهربائي بعد انقطاع دام 11 يوماً عن المدينة وريفها، وتسبب بمعاناة إنسانية خطيرة مقابل وقف البراميل على المدينة وتحييد منشآت المياه والكهرباء، عاد وتسبب بمجزرة من خلال رمي برميل متفجر على مدرسة عين جالوت في حي الانصاري، فأعاد المسلحون قطع الكهرباء عن المدينة.

ولا يبالي النظام بأية تسوية ولا صراع في مناطق ليست خطرة عليه، كما هي حال مدينة الرقة مثلاً، لأنه يستفيد من وجود “داعش” هناك، وما تمثله من نموذج يخيف به الغرب والاقليات وكل السوريين.

هكذا، فإنّ النظام لا يميل إلى عقد تسويات الا مكرهاً، وبكل الأحوال لا يتعامل معها على أنها نهائية وثابتة، فهي بالنسبة اليه مدخل لتغيير موازين القوى وعزل هذه المناطق الثائرة وتفكيك عوامل قوتها وثورتها، في حين ان المعارضة المسلحة، غالباً ما تقبل بهذه الهدنات بسبب الأوضاع المأسوية التي تعيشها مناطقها، وقلة السلاح والدعم وتغير موازين القوى.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى