هدنة العيد وادعاء القوة!
أكرم البني
هو أمر مفهوم أن تمسخ مهمة الأخضر الإبراهيمي إلى مجرد مناشدة أخلاقية لوقف الاقتتال في أيام عيد الأضحى المبارك، فلا يخفى على أحد أن المندوب العربي والأممي، مع احترام هذا الوصف الكبير، لا يمتلك أدنى فاعلية أو تأثير على الحدث السوري، وأيضا هو أمر مفهوم أن يلتف أهل الحكم على أي مبادرة تدعو لوقف العنف ولحل سياسي، ما دامت لا تفارقهم الأوهام عن قدرتهم على وأد الثورة وسحقها بما يملكونه من وسائل الفتك والتدمير، لكن ما ليس مفهوما هو الترويج لفكرة تقول إن استخفاف النظام بهدنة الإبراهيمي هو دلالة قوة وإن قبولها السريع من أطراف المعارضة هو دلالة ضعف، وإنه خلل كبير أن تمنح هذه الأخيرة فرصة لالتقاط أنفاسها وترتيب صفوفها، وأيضا ما ليس مفهوما أن تعاد إلى الواجهة عبارات مثل أن «القصة خلصت» وأن الأزمة أوشكت على الانتهاء، في محاولة للإيحاء بأن القوة بدأت تجدي نفعا، وأن عليه مراجعة حساباته من بدأت تهتز ثقته بالنظام وبأسلوب العنف طريقا للحسم.
والحال، تعجب بعد أكثر من سنة ونصف السنة على انطلاق الثورة وما وصلت إليه أحوال البلاد، كيف يستطيع النظام تنمية الثقة بنفسه وبقدرته على الحسم العسكري وقد جرب على مرأى من العالم كل أصناف الأسلحة والخطط الحربية ولم ينجح في سحق الاحتجاجات أو الحد من قدرة الثورة على التجدد، وتعجب أكثر من المقياس الذي يعاير ما تحقق على الأرض ويخلص إلى أن السلطة صارت في موقع أفضل وأنها أوشكت فعلا على حسم الأمور لصالحها، أفلا يتعلق معيار القوة بالنتائج؟! وها هي النتائج تتحدث عن نفسها، وتكشف لكل ذي عين، أين صارت مواقع النظام وأين صارت أحوال الثورة السورية!
كثيرة هي المؤشرات التي تدل اليوم على ضعف السلطة وتراجع قدرتها على التحكم في التطورات الحاصلة، تبدأ بالعجز عن قمع الاحتجاجات أو وقف الاستمرار العنيد للمظاهرات السلمية في أيام الجمع أو الحد من تمددها إلى مناطق وأحياء كانت حتى الأمس القريب هادئة وبعيدة عما يجري في البلاد، مرورا باتساع المساحات والمناطق الخارجة عن سيطرتها مع تنامي أعداد المسلحين وتزايد نفوذ الجيش الحر والتخلخل الواضح في أهم مرتكزاتها كالجيش والأمن والحزب وملحقاته النقابية، تأثرا بتكاثر الانشقاقات وحالات التهرب من المسؤولية، مرورا بالتأزم اللافت للوضع الاقتصادي، كدورة إنتاج وحركة أسواق، جراء الحصار والعقوبات، بما في ذلك تراجع الدور السياسي لقطاع الدولة وقدرته على ضمان ولاء العاملين فيه عبر رشوتهم بزيادة أجورهم وتأمين بعض مستلزمات حياتهم، ومرورا بانحطاط قدرة الإعلام الرسمي، في ظل هستيريا العنف المعمم والتدمير العشوائي، على التعبئة والتجييش «ضد عصابات مسلحة وقوى سلفية ترتبط بأجندة خارجية»، انتهاء بالانحسار اللافت للقاعدة الاجتماعية التي كان يرتكز عليها النظام مع بدء الأحداث، والجديد اللافت في هذا الصدد، أن تسمع سؤالا يتكرر اليوم وبأشكال متنوعة بين الموالين ومن يدورون في فلك السلطة، عن ماذا بعد؟! وأي مصير ينتظرنا؟! أو أن ترتفع أصوات تطالب بحل سياسي، كانت حتى الأمس القريب تدعو لسحق الثورة عبر العنف العاري، أو أن تلمس حالة رفض وامتعاض من الدعوات للتجمع والاعتصام دعما لسياسات الحكم، أو استياء مما يثار عن دور إنقاذي لبعض القرارات الحكومية والخطوات الإصلاحية التي أعلنت وقد أدرك الجميع أنها مجرد مناورات وإجراءات شكلية لن تقيهم تبعات التدهور المتسارع.
ربما لا يحتاج المرء لأكثر مما ذكر آنفا كي يقتنع بفشل الحل الأمني والعسكري وعجز النظام بكل وسائله العنيفة عن تعديل موازين القوى لمصلحته، أو استعادة زمام المبادرة، فكيف الحال وقد صارت العاصمة دمشق تنام وتصحو على أصوات الرصاص والقذائف وأخبار الاقتحامات والاعتقالات، بينما انقلبت «أم المعارك» في حلب من حلم سلطوي بحسم سريع إلى كابوس واستنزاف يومي، والصورة ذاتها تتكرر في إدلب ودير الزور ودرعا وريف دمشق، وأوضحها عجز الحصار والقصف المستمرين منذ أكثر من عام عن اجتياح أحياء مدينة حمص وإخراج قوات المعارضة منها.
والحقيقة، يصعب على المرء فهم الطريقة التي ينظر بها النظام إلى قوته، وكيف استنتج أن حلوله الأمنية والعسكرية أدت الغرض ونجحت، وكيف يقوى على القول إن «القصة خلصت»، بينما الواضح أن الأمور تسير نحو المزيد من التعقيد واستنزاف ما تبقى من قوته، هذا إلا إذا تم ابتسار مفهوم القوة في ما تخلفه آلة قمعية هائلة من موت ودمار في المدن والمناطق المتمردة، أو في تكاثر الحواجز الأمنية والعسكرية التي تصدمك مع كل خطوة تخطوها، أو في حضور السلطة فقط حيث تحضر قواتها ودباباتها وطائراتها، أو في تصعيد القمع والتنكيل والإمعان في الفتك والدهم والاعتقالات، مع كل مرة تضطر فيها السلطة إلى اجتياح أحياء ومناطق لسحق الاحتجاجات ووأد قدرتها على التجدد.
يتفق السوريون على أن البلاد تقف على مشارف مرحلة حاسمة ومصيرية من تاريخها، وأن طريق العنف هو طريق مسدودة لا أفق لها، ويتفقون أنه من المحال أن تنجح الهدنة ويلتزم بها نظام لم يعد قادرا بعد ما ارتكبه على الحكم، فلا سلطة يمكن أن تعيش وتستقر فوق هذا الدمار وبعد الشروخ العميقة التي أحدثتها، وليس ثمة فرصة يمكن أن تتاح لها مجددا لصنع مجتمع واقتصاد وسياسة، ويتفقون أيضا على أن الزمن بات يعمل لصالح ثورتهم، وأن كل يوم يمر، على الرغم من شدة المعاناة والتكلفة الباهظة، يعني تدهورا متسارعا لقدرة النظام على الاستمرار في نهجه القمعي، وتاليا ترك الميدان لقوى جديدة ومعالجات من طراز مختلف.
الشرق الأوسط