هدى وزينة تربكان القرار السوري/ سوسن جميل حسن
في عصر الثورة الرقمية والاتصالات، والنبوءات والتنبؤات في مختلف ميادين الحياة، تعجز الأرصاد الجوية السورية عن رصد ومتابعة الفاتنتين الوحشيتين الغاضبتين: زينة وهدى. فالسماء السورية مستباحة من الطيران الحربي، بمختلف أشكاله وتبعياته، ومنطلق للبراميل الساقطة بشكل حر مع نسبة خطأ غير جديرة بالاهتمام “قياساً” بعدد الضحايا من المدنيين، وخصوصاً الأطفال، فالأمهات السوريات ولّادات، يعوّضن الأرواح البريئة التي يحصدها الموت، والنساء السوريات محظوظات، فالفتاوى نشطة في شأنهن، وخيارات الحياة أمامهن مفتوحة، بين تعدد زيجات وزواج ملك اليمين وزواج المتعة وزواج السترة وزواج الإماء وزواج السبايا وغيرها الكثير، فلماذا حسبان الخطأ في انهمار زخات من البراميل، طالما التعويض سهل؟ ولماذا التفكير في أطفال سوريين وأرواح سورية في المخيمات، طالما هم خارج حدود الخارطة؟ ربما الجنسية ورقة للتداول الداخلي فقط.
أما أرض سورية، فغارقة بدماء أبنائها الطازجة الحارة، القادرة على إذابة قلب جبال من الثلوج، تفجرها القذائف والسكاكين التي تقطع الرؤوس باسم الله، بالدرجة نفسها، فكيف لمديرية الأرصاد الجوية أن تقدم تقريراً مسؤولاً لوزارة التربية، المشغولة بهموم التلامذة السوريين؟ هاتان الغانيتان أربكتا وزارة التربية، فأخذ وزير التربية ينوس في قراراته. عند العاشرة وعشر دقائق مساءً، يرمي بالمسؤولية على مدراء التربية في المحافظات، بخصوص امتحانات يوم الغد، ويقول إن التأجيل، أو تثبيت امتحانات الغد، يقع على عاتق مدراء التربية في المحافظات. ويعود الوزير عند العاشرة والربع مساءً، ويقول إن امتحان الغد سيكون عند العاشرة صباحاً بحسب توجيهات الوزارة، وعند العاشرة والربع مساءً يقول إنه إن استمر هطول الثلوج في محافظة دمشق، ففي وسع مديرية تربية دمشق اتخاذ القرار المناسب صباحاً!
في سورية مركزية كاملة، ونظام شمولي في كل أمر. لدينا نظام تعليمي واحد، ومناهج واحدة، ومواعيد امتحانات واحدة، وأسئلة موحدة، على الأقل لدى طلاب الشهادات. ومع هذا، لم تستطع وزارة التربية تشكيل “خلية أزمة”، تدير العملية التعليمية في ظرف أحوال جوية استثنائية، بل راحت تتخبط في حيرتها، وتصدر القرارات ليتبلغها ذوو الطلاب والتلاميذ من على الشاشات الرسمية، في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة خانقة في الطاقة الكهربائية، توصل المواطنين إلى العجز والإحباط. دفعت هذه القرارات الضبابية بالأهالي إلى الاتصالات فيما بينهم، أو إلى من هو محسوب على السلك التعليمي، مثلما لو أن كل من يشتغل في وزارة التربية هو بمثابة مرجع فقهي وقانوني. لم تكن الإجابات سهلة، فهؤلاء، أيضاً، لا يستطيعون أن يقدموا تفسيراً لقرار وزاري مبهم، فكانت النتيجة اضطراباً وفوضى ومدارس مغلقة أبوابها، وأخرى أبوابها مواربة، وبعض من الصغار يقذفون بأقدامهم الكرات في ساحاتها، أو يهرولون ويركضون، ويذرعون الشوارع في وقت كان يجب أن يكونوا فيه على مقاعد الدرس يقدمون امتحاناتهم. بينما كان في مقدور الوزارة أن تصدر قراراً واضحاً صريحاً تحدد فيه عطلة بأمد معلوم، ريثما تمر العواصف، وتستقر الحالة الجوية في البلاد، وهذا مقدور عليه في عصرنا الحالي، لأن حساب كل طور من أطوار الطبيعة وعمره ليس أمراً صعباً. أما أن يُترك التلاميذ والطلاب وحدهم يحزرون ما في صدور المسؤولين وأصحاب القرار، فهذا أمر ينم عن تدني مستوى المسؤولية وتردي الإحساس بها، خصوصاً وأن الأعطال الرسمية كثيرة حدّ الإعاقة في الأداء التعليمي، والأعطال والعطل الطارئة ترفدها، أيضاً، فيتقلص العام الدراسي إلى ثلثيه، ويتراجع التحصيل العلمي الذي يقوم، أساساً، على ضخ المعلومات المبتسرة والمختزلة، لتستخدم كآيات مقدسة ومسلمات وبديهيات لا يمكن نقاشها، حتى يصل في مستوى الجامعات إلى الاعتماد على الملخصات الدراسية، تنجزها مجموعة من الأفراد يشكلون شبكة، بينما تصل إلى مكتبات الخدمات الجامعية المتاخمة لجامعات سورية، ويشتريها الطلاب قبل امتحاناتهم.
لم تكن العملية التعليمية والتربوية سليمة في سورية قبل الأزمة، كانت مبنية على القمع
“أطفال سورية قذفت بهم الحرب إلى أتونها الحارق، أو إلى ملحقاته، لم تبقَ لديهم مدارس، ولم يبقَ لديهم معلمون، فالمعلمون اصطف معظمهم إلى جانب عقيدته، دينية أم دنيوية، فراح يجاهد في سبيل القضية”
والترهيب والتلقين لمفردات الولاء كانت تسير ضمن نسقين، نسق نظامي مدعوم برعاية القيادة السياسية والفروع الأمنية إذ لكل وزارة مكتب قطري في القيادة القطرية ومكاتب فرعية في فروع المحافظات، ونسق آخر يتشكل في الظل للاّئبين خلف علاج لجراحات الكرامة والأرواح وملء الفراغ الفكري، هو النسق الديني المرتبط بالمطلق، والمفتوح على كل التيارات الدينية الفكرية، من المعتدلة حتى السلفية والمتشددة. كانت عملية تأسيس الكوادر تقوم على التلقين وتعليم الطاعة والإذعان، الكوادر التي ادُّخرت ليوم كهذا يكون دمار سورية بكيانها المتكامل هو المطلوب.
أطفال سورية قذفت بهم الحرب إلى أتونها الحارق، أو إلى ملحقاته، لم تبقَ لديهم مدارس، ولم يبقَ لديهم معلمون، فالمعلمون اصطف معظمهم إلى جانب عقيدته، دينية أم دنيوية، فراح يجاهد في سبيل القضية، وصارت الحرب المعلم الأكبر، حرب الإرادات والمصالح والعقائد، والأطفال يحملون البنادق، بين حقيقية وخلبية، ويتوعدون أذناب المؤامرة الكونية، أو يحملون السيوف، ويتمرنون على قطع الأعناق، ضرورة جهادية ضدّ من هم ليسوا على دينهم ومذهبهم، في جزء من أرض الرباط، لإقامة الخلافة الإسلامية الحق، إلى حين تنبت لحاهم، فيطلقونها إلى حين بلوغ الجنة، بفتوتهم التي ستفتن حورياتها.
عندما نمعن في المشهد، لا بدّ أننا سنرى صورة الكارثة المقبلة، وهي تتضح وتنجلي وتتكامل، أي مجتمع ستخلفه الأزمة السورية، وأي جيل سيبقى ليبني ويعيد الإعمار؟ حكومة ما زالت هي الضالعة بإدارة البلاد وحياة “العباد” لا تستطيع أن تدير أزمة طقسية، كما هي معظم أزمات الحياة الأخرى، حيث يترك الناس يتحملونها، ويديرها تجار الحروب، بينما المواطن السوري يدفع الفاتورة الأبهظ.
العربي الجديد