هذا العالم الأعور/ غالية شاهين
خمسة قتلى، وأكثر من عشرين جريحاً في هجمات متزامنة تقريبا، في لندن، وصفها رئيس وحدة مكافحة الإرهاب في شرطة لندن بأنها إرهابية، مضيفا أنها تتبع لما سماه “الإرهاب المتعلق بالإسلاميين”. بدأت معها كل وسائل الإعلام في العالم المسموعة والمرئية والمقروءة، ومنها وسائل إعلام عربية، بنشر الخبر كالنار في الهشيم، ومتابعة تفاصيل الأحداث، أولاً بأول، وتغطيتها “مباشر” مدة تجاوزت الاثنتي عشرة ساعة في عدة قنوات تلفزيونية.
حدث كبير يستحق الاهتمام. فالمكان هو لندن، إحدى أهم العواصم الأوروبية، والقتلى بريطانيون وفرنسيون، والقاتل أو المهاجم، حسب التصريحات الفورية قبيل أي نوع من التحقيق، “إرهابي” مسلم.
أما ما حدث في الجهة الأخرى من العالم، في بلدة المنصورة في ريف الرقة، في اليوم نفسه، فهو حدث هامشي، يصنّف تحت بند “النيران الصديقة” أو “الخطأ غير المقصود”. فالمكان هنا مجرد بلدة سورية مهملة، لا قيمة لها، والقتلى مجرد سوريين مدنيين نازحين، لا أهمية لحياتهم أو موتهم، مجرد أرقام جديدة تضاف إلى تقارير العالم ومنظمات حقوق الإنسان، ولم يتجاوز عددهم أكثر من ثلاثمائة شخص، قضوا خلال 24 ساعة. والأهم أن القاتل هو قوات التحالف الدولية الصديقة للشعب السوري، والحامية له من إرهاب “داعش”، والتي تعمل لأهداف إنسانية سامية، تتمثل في مكافحة الإرهاب الخطير الذي قد يقتل في أية لحظة خمسة أوروبيين في لندن، أو غيرها من مدن العالم الآمنة.
حتما، في عالم قذر يتشدّق بالإنسانية، لا مجال للمقارنة بين الحدثين، فالأول قادر على اجتذاب الأضواء واستدرار التعاطف من كل حكومات العالم العربية والأجنبية، أما الثاني فلا صوت له، ولا أهمية لضحاياه، ولا يستحق حتى أن يُذكر خبرا عاجلا على المحطات الفضائية، أو وسائل الإعلام عالية المهنية.
هو العالم نفسه والوسائل الإعلامية نفسها التي لم تعتبر وثيقة مهمة، كتقرير منظمة العفو الدولية (أمنستي) الشهر الماضي عن عمليات شنق جماعية لأكثر من 13 ألف معتقل في سجن صيدنايا السوري، حدثا يستحق النشر، أو حتى الذكر، في تغطياتها انتهاكات حقوق الإنسان، فضحاياه أيضاً لم يكونوا أكثر من “سوريين”.
تتواصل الأحداث وتبعاتها حول العالم، لتكشف يوماً بعد يوم، ازدواجيةً مرعبة في تعاطي الحكومات والمنظمات الإنسانية معها، فضلاً عن ازدواجية أبشع وأقسى، تغلف تعاطي الإعلام العالمي والعربي مع تلك الأحداث. فربما يتجرأ بعضهم على التبرير للحكومات، (وهو تبرير غير صحيح بالمطلق) بأنها تعمل لمصالح شعوبها، لكن التصرّف المزدوج لوكالات الإعلام والوسائل الإعلامية المختلفة، في السنوات الماضية، يُسقط تماما أي ادعاء كاذب بامتلاك أي نوعٍ من الحيادية والشفافية والمهنية، وهو ما لا تمتلكه، ولم تمتلكه أصلاً، منابر إعلامية عربية عديدة، لكن الغربية منها كانت تتشدّق به طول الوقت، وها هي اليوم تساهم مع حكوماتها بصناعة الفزّاعة الأكبر، وإلباسها ثوب “التطرّف الإسلامي”، كما وتلعب الدور الأهم في صناعة “الإسلاموفوبيا” ونشرها، وتسويق فكرة ضرورة محاربة “الإرهاب” الذي لم يعد العالم يعرف شكلاً آخر له غير “الإسلامي”، وكأن ما يحدث في سورية اليوم، أو في مناطق كثيرة أخرى، مجرد قتل رحيم لكائنات لا حاجة له بها.
أي زيف عرّته المقتلة السورية ومآلاتها. وأي وجهٍ كشفته تلك المجزرة العلنية المستمرة منذ ست سنوات، تحت أقنعة العالم البرّاقة. وأي عدلٍ ما نزال متمسّكين بأمل إرسائه.
هذا العالم أعور، ولا أمل بشفائه، لكن هذه الشعوب المقهورة اليوم ستقف يوماً أمامه، ستقف بمواجهه تماماً، تعلن عن وجودها وتجبره على رؤيتها والاعتذار.
العربي الجديد