هذا العالم كيف نفهمه؟، الثروة لن تشفع لنا هذه المرة/ غازي دحمان
لم يعد العالم خاضعاً لتنميطات يمكنها حل إشكالية التنبؤ بالتطورات وطبيعة الاحداث القادمة، فقد أسقطت التغيرات الديناميكية تلك الثقة الساذجة التي نام العالم على كتفها عقوداً طويلة وادعى الخبراء القدرة على الإحاطة بها، حتى عالمنا العربي الذي يعتبر الركود سمته الأساسية، بات ينام على متغير ليصحو على تطور وهكذا.
كيف لنا ان نفهم هذا العالم لنعد العدّة اللازمة لمواجهة تغيراته؟، لا يبدو أن ثمة أحداً في الدنيا يجرؤ على التنطّح لهذه المسؤولية، بل ان أولئك الذين ادعوا أن لديهم حلولاً نسبية أيقظوا القلق وعدم الاطمئنان أكثر ما طمأنوا العالم، ومثال ذلك النظريات التي خرجت في السنوات الأخيرة مثل« البجعة السوداء« لنسيم نقولا، أو نظرية« تأثير الفراشة«، فهي قدمت لعالم فوضوي تصنعه التداعيات والمفاجآت ولم توضح كيفية التنبؤ بأحداثه وتطوراته.
في الخبرة السابقة، كان كل شيء يجري وفق أنماط خطية تعرف بعض «النظامية« التي تمنع من حدوث التغيير الراديكالي والمفاجئ، أما الآن فقد باتت الأنماط «الخطية« من الماضي، وأضحى على السياسيين ورجال الأعمال وصانعي القرار ضرورة التخطيط للتعامل مع غير المتوقع. فقد أصبحت القدرة على السيطرة الكاملة شبه مفقودة في عالم اليوم، حتى من قبل أعتى الحكومات التي ما انفكت تحاول تقييد آثار المتغيرات المتسارعة، فإذ بها لا تتمكن من ذلك، إلا في حالات نادرة!.
وتزداد الحاجة في عالمنا العربي لهذا النمط من التوقع نتيجة السيولة الهائلة للأحداث واندفاعها المدّمر، وذلك للتخفيف قدر الإمكان من تأثير هذه التداعيات في صناعة المستقبل وضبط ما أمكن من مخرجاتها والتحكم بها.
إعتاد العرب استيراد النماذج الجاهزة من الغرب في كل ما يخص حياتهم، من شكل أنظمتهم السياسية إلى مختلف أنماط التكنلوجيا وحتى أصناف الأغذية وأنماط الحياة. ولم يكن ثمة إشكالية، طالما وجدت لديهم ثروات يبادلونها بكل تلك المنتجات ويستطيعون تقديم خدمات معينة« كالسياحة« لإنتاج ثروة تمنحهم فرصة لاستيراد ما أمكن من منتجات غربية لمواجهة مشاكل التكيف مع الحضارة.
غير أنهم لن يجدوا هذه المرّة مبتغاهم، والواضح أن ثرواتهم لن تشفع لهم باستيراد خطط ونماذج تفيدهم بالسيطرة على تحوّلات المستقبل وتطوراته المفاجئة، ذلك أن الغرب استنبط في هذا الإطار حلولاً تتناسب مع التطورات الحاصلة في بيئته هو ولا تصلح للتصدير من أجل معالجة مشاكل خارج تلك البيئة، وإن كانت في العموم قابلة لإعادة «التبيئة« لكن ضمن شروط ومواصفات لا يتقبلها الواقع العربي.
من تلك الحلول مثلاً، إعادة هيكلة المؤسسات الحيوية، بحيث تصبح أكثر حيوية وتشابكية وتتمكن من تلبية الاحتياجات الأساسية للأفراد أو على الأقل تدرك ماذا يحتاجونه، و كذلك استخدام الوقت وإدراك أهميته بحكمة شديدة، و تشكيل فرق عمل لاستكشاف المواقف العاجلة التي تبث إشارات بإمكانية حدوث تغيير غير متوقع، ومعرفة درجة الكفاءة الذاتية على تحقيق التغيير وفق الأهداف الكبرى المنشودة، بحيث يتم وضع رؤية متكاملة للمخاطر المتوقعة قصيرة الأجل وطويلة الأجل وكذلك، القدرة على اتخاذ إجراءات فورية وسريعة يتم الاستعداد لها بشكل مسبق، ففي عالم شديد التحديث والسرعة والفعالية التواصلية والثقافية، لم يعد هناك شيء مركزي تقريباً في عالم السياسة وعوالم الاجتماع، ولم يعد هناك تخطيط يجري وفق معلومات موجزة أو ضئيلة، ولم تعد هناك قيادة مركزية للدولة أو حتى للحي الصغير.
هذه الشروط لا تبدو متناسبة مع طبيعة الفكر العربي ونمط الإدارة المتبعة، التي تميل إلى المركزية بدرجة كبيرة وعدم الثقة بالخبرات من خارج الدوائر المحظية، وفي ظل تركّز السلطات ضمن دوائر ضيّقة جداً تعتبر أن توسيع المشاركة في البحث عن المقاربات المناسبة وفي اتخاذ القرار عموماً نوع من المغامرة غير المحسوبة وغير المحمودة في الآن عينه.
هذا العالم كيف نفهمه؟ بل كيف نخطط لإنقاذ أنفسنا من احتمالاته السيئة!، الأرجح أن ذلك لن يحصل ضمن الشروط المتوافرة. علمتنا خبرتنا العربية أن نتفجع على الاحداث بعد مرور وقت طويل من حصولها، ولم يحصل أننا صنعنا الأحداث ووجهناها بما يتناسب ومصالحنا!؛ هذا العالم لن نفهمه طالما ان مرشدنا إلى المستقبل، حادثة السقيفة وحرب صفين، أصلاً لا حاجة لنا لفهمه فما حاجتنا للمستقبلات البديلة ونحن مغرمون باستعادة الماضي العتيد!.
المستقبل