هذا عهد الناس بهم
عمر القيسي
لا أعلم بالضبط مصدر التحفّظ الإيديولوجي المحيّر الذي يبديه بعض رجال الدين المسيحيين في بلدنا حول ما يصيب بعض العرب من ثورات لم تكن في حسبان أنظمتها. أسأل، من موقع المتابع الحريص، لماذا يتوجس بعض المسيحيين خيفةً كلّما يمّموا وجوههم شطر البلاد المكتوية بنار وقائع الثورة العنيدة، على حدّ تعبير لينين؟ بل أسأل، وقد هالني حقاً ما قرأت من تصريحات كنسية وصفت الثورة بـ”المؤامرة الصهيونية” أو الثوار بـ”آلهة الشيطان وأبناء الأفاعي”، أليس من قصر النظر ونقصان الحكمة الافتراض بمكان وجود قواسم مشتركة أو خطوط متوازية بين نموذج الكنيسة المسيحية، التي تحفظ الإنسان وترقّيه في وجوده وتبلّغه أسرار العهود وكوامن التاريخ البشري ليستقي منها وينمو ويزدهي، ونموذج الدولة العربية المارقة التي أصبح فيها جسد المواطن موضوعاً لسياسة النظام الفاشي، صحيفةً مستباحةً تراق الكرامة على ما تبقّى من بياضها إراقةً دموية في أيام مصيرية تشيع فيها خيانة أولياء الأمر لشعوبهم مثلما يشيع فلق الصبح في كلّ نهار عند كلّ تصالب للشمس في أعالي الجبال؟
أيضاً وأيضاً، وإن كنتُ عاجزاً عن فهم طبيعة ما يختلج في نفوس بعض القساوسة والمسؤولين الكنسيين من محرّكات ارتياب حقيقية تدعوهم إلى مزيد من التروّي في مباركة لهبة ثورية هنا أو هناك، إلا أن ذلك لا يردع مهمازاً أستشعره في نفسي يهمزها ويحثّها على تأصيل الإقتناع بأن عقيدة المسيحية لم تكن يوماً عقيدة الانقياد والإكراه والهيمنة والترويع والترهيب والذلّ. فليس هناك من عقدة أو مصلحة أو ذرّة من انسجام ترغّب أيّ صرح كنسي في عقلية أنظمة سلطوية قروسطية ذات وجه إباديّ دموي. أعلم يقيناً أنّ المتعقّلين والمتبصّرين من حكماء المسيحية لا ينظرون في عمق الأعماق إلى المصالح السياسية وحساباتها الأكثروية والأقلوية حصراً، لكن إلى البشر عموماً وانسيابهم التزمّني العفوي اللامحدود في قصديّة إنسيّة ترانسندنتالية محسوسة الأثر تأمن عليهم من سيوط الكارهين وتصون حريّتهم وترتفع بهم ارتفاعاً روحياً مجيداً إلى رحابات الملكوت الطلِقة؟ بعدما ذقنا طعم المرارة والهزيمة مع مشايخ السلاطين ومدّاحيهم والمُرّاح في ربوعهم، أليس من حقّنا أن نخاف على الرهبان تحوُّلَهم رهبانَ بلاط يسبّحون بحمد البطّاشين واللحّامين العرب ليل نهار؟ نعم، فممّا لا يخفى على الألبّاء المتتبّعين لمسيرة الثورة السورية وغيرها من ثورات العالم العربي، أنّ البانوراما الشرق أوسطية السياسية تنبئ بتأجّج صراع هويّاتي بوليميكي عالي الوتيرة بين المتبنّيات الفكرية لنظرية “إسلامية، إسلامية” من جهة، ونظرية “مدنية، مدنية” من جهة أخرى.
وقد نشهد زيجات هجينية أخرى تخلط الحابل بالنابل من قبيل زيجة الإسلام السياسي المذهبي والنيوليبيرالية، أو زيجات غير شرعية أخرى من قبيل زيجة الإرث الريفي العربي بالطوبولوجيا المدينية الحديثة النشأة. فهل يستمر زواج العقلية المشيخية الإسلامية والسلطة السياسية الأحادية إلى ما لا انتهاء؟ أم يحصل طلاقٌ مبين لا رجعة فيه؟ لكن، والكلام لا يزال عن رجال الدين المسيحيين المثقلين بمخاوفهم المشروعة، ينبغي للمسيحية المشرقية أن تدرك، وهي الأقلية التي عانت وتعاني الكثير، أن العالم العربي قد يكون مقبلاً على واقع ديني ديموقراطي جديد لا مكان فيه إلا للمتذهّنين الواعين لمقولة فيكتور هوغو في “البؤساء”: “على مشارف كل تغيير، هناك ما يجب تدميره وهناك بكل بساطة ما يجب توضيحه وإعادة النظر فيه”. فعلى أتباع المسيح الأمناء ألا يناوروا ويستعملوا الحجّة والنصيحة، المحسوبتين لهم طبعاً لا عليهم، مع أنظمة ما انفكّت تدمن هراء السلطة والجاه والثراء حتى يوم الناس هذا.
عليهم تخريج معاني الانجيل تخريجاً ثورياً، فنخرج بذلك جميعاً، مسيحيين ومسلمين، من قوقعة الشرق الخانقة والعازلة إلى فضاء المصير الإنساني الواحد والنابذ كل أشكال ثقافة العنف، فيهشّم بذلك أوكار الغطرسة ويفضح فراغ “شبِّيحتها” وينقّي مجاعل النفس العربية ويرفرف بمناطق حدسنا الإنساني الحرّ نحو مملكة الله في السماء.
عندي أن المسيحية في الشرق هي قمرُ تمامِه، الله مقصدُها والحرية خُلُقُها والمحبة مرجعُها في كلّ وقت وآن. وعندي أن المسيحية متحرّرة من كلّ لآلئ المجد ومنعتقة من كلّ مسبقات الدهر وتحكّماته، وأنها الحياة من حيث هي عقلٌ كلّي لتدفّق محضوني الإله الممتدّ بين الولادة والموت، وأنها الموت من حيث هو إتيقا الخلوّ-من-العلائقية وصباحٌ أنطولوجي متجاوز سقوفَ الإيكولوجيا الأرضية وسباحةٌ بشرية حرّة في اللامتحدّد اللامتعيّن. لا أراها إلا ديانة شاملة، انفتاحاً للأرض على السماء كما انفتاحاً للسماء على الأرض، تعانق الملكوت السموي بقدرِ ما تتجذّر في الأرض وتخدم أهلها وتصارع شهوات الأباطرة المتكالبين عليهم. هي عندي “كنائس خاوية وساحات عامرة”، فالكنيسة تتركّز في القلوب ولا تكون أسيرة سياسات.
وعندي ما قرأته من دليل تاريخي قطعي يقعِّد المسيحية ثورةً وجهاداً: فمن شهداء المسيحية الأولى، مثل الكونسكري مكسيميليان وسنتيريون مارسي، الذين تحدّوا عتاة الرومان المستكبرين من نيرون في القرن الأول إلى قسطنطين في القرن الرابع فرفضوا الانخراط في صفوف جيوشهم، إلى نضال الدوناتيين القرطاجيين، أنصار دوناتس الثاني الذي استعمل المسيحية كعقيدة لضرب روما الغارقة في أتون مانويتها القديمة وولاءات عبيدها الضالين وجهالاتهم وتحرير منطقته الأفريقية من استعمارها وأسلوبها العنصري الشيطاني في معاملة البشر وتدنيس سرائرهم الطاهرة بما طاب لحكّامها من لذائذ الفحش والرذيلة.
وعندي أن المسيح أشار إلى أصحابه وهم ينظرونه مصلوباً أن يسامحوا ويعفوا لا أن ينسوا تضحيته ويتجاوزوا اللوعة الأبدية التي نفختها حادثة الصلب في الوجود، كل الوجود. وهو، المسيح، لمّا اعتقله الحاكم الروماني بونتياك بايلوت وأخضعه لاستجواب، سرعان ما خلّد التاريخُ نصّه ومجرياته الآيلة إلى حتميّة الصلب، لم تجده يذعن للسياسي الجائر بل يخاطبه صادحاً بالحقيقة الثاقبة: “تقول إنّي ملك. لأجل هذا وُلدت، ولأجله قصدتُ الأرض لأكون شاهداً على الحقيقة. كلّ من تسكنه الحقيقة سيسمع صوتي”. تلك نافذة المسيحية على ثورة الحقّ والمحبة الشاملة.
ستكون المسيحية دوماً إلى جانب دماء الثوار التي سالت كي نحيا جميعا وتعي شعوبنا أكثر وأكثر. في الإنجيل شروطٌ باطنةٌ ثوريةٌ لا إمكان لأيّ لاهوت إلا بها، ولن يفعل العقلاء المسيحيون إلا أصوب الصواب. ذلك عهد الناس بهم الآن ودائما.