هذه الثورة ابنتي/ ماجدولين الشموري
أخاف أن أكتب عن الثورة السورية. يلاحقني وجه الطفل الحلبي نايف دائماً، وأفكر في أنّ البكاء لعبة الأطفال، فكيف لم يبكِ نايف؟ يحكي نايف عن أهله الذين ماتوا، ولا يبكي. يصفعنا الصغير بسؤاله “ليش”؟ لم يعد نايف طفلاً منذ تلك اللحظة. اللحظة التي حبس فيها دموعه، وسأل، “ليش؟”.
أتذكر أيضاً “أبو سعد” من رواية “القوقعة” لمصطفى خليفة. الرجل يودع أولاده الثلاثة المتوجهين إلى حبل المشنقة. لا أستطيع تخيل شعور الرجل الذي لا يستطيع منع الموت عن أولاده. يقف “أبو سعد” في وسط الزنزانة بعد ذهاب أولاده، يبكي، يصرخ، ويسأل “آخ..آخ يا ربي ليش؟”.
أعتقد أنّ عدوى البكاء والـ”ليش” تصيب الآباء جميعهم منذ بداية الثورة السورية. الأب الذي لم يبكِ، ولم يسأل حتى الآن، مشكوكٌ بأبوته. أبي قال لي “هذه ثورتنا”. تابع أبي هذه الثورة لحظة بلحظة، وتخلّى عن قرابات وصداقات كثيرة من أجلها. مرّ زمن منذ أن رأيته متحمساً لأي شيء. توقف عن قراءة الكتب السياسية التي يحبّها منذ زمن. توقف عن متابعة البرامج السياسية وقراءة الصحف. يشاهد نشرة الأخبار المسائية مُجبراً. أبي تنقل منذ عمر الرابعة عشرة بين الأحزاب. ترك منزل الأهل، حمل بندقية، وقاتل. كلّ هذا لا يعني له شيئاً الآن. لا شيء سوى سنوات ضائعة من أجل لا شيء.
اعتزل أبي الأحزاب فيما بعد. اعتزل السياسة، واعتزل الحياة نفسها. يقضي صيفه وشتائه على النحو نفسه. في أيام الآحاد، يتوجه فور استيقاظه إلى الحديقة، ولا يتركها إلّا لينام. اليد التي حملت بندقية سابقاً، لا تحمل الآن إلّا مقصات لتشذيب الأشجار والشتول. يستمع إلى أمّ كلثوم طوال الوقت. لا يفرح، لا يحزن، ولا يغضب. يراقب شتلاته طوال الوقت، ولا يهتم إلا بها. يوصينا بها قبل أن يتوجه إلى عمله، ويطمئن عليها فور عودته. الحديقة كونه الآن.
متى غضب أبي؟ غضب عندما شاهد رجلاً يقول بكرامة مجروحة “داسوا على رقبتي، أنا إنسان، أنا ماني حيوان، وهالناس كلها متلي”. صار أبي يغضب مجدداً، ويفرح، ويحزن، ويبكي. قال لي “هذه الثورة ابنتي”. لم أفهم في البداية، وناقشته في الأخطاء. ابتسم، وردّد جملة لأحد الشعراء، “هي الخطأ لحظة صواب الآخرين”. وكرّر “هذه الثورة ابنتي”.
أكمل أبي “رسمت صورة لكِ في رأسي قبل أن تولدي، كنت أريدك كذا وكذا، وعندما ولدت لم يعد لهذا الكلام كله معنى. أنت ابنتي الآن، وهذا فقط ما يهمّ. بقيتِ ابنتي عندما سرقتِ، واشتكوا لي عنك. بقيت ابنتي عندما كذبت. بقيت ابنتي عندما اخطأتِ، ولم تعترفي. بقيتِ ابنتي عندما غضبتِ منّا وأبعدتِنا عنك، نحن أهلك. وهذه الثورة ابنتي، ولا أكذب إذا قلت لك أحياناً أنّها أغلى منك. أنتِ لم أنتظرك قبل أن تأتي، ولكننا انتظرنا هذه الثورة جميعنا. وعندما وُلدت، لم أفكر، لم أحللها، ولم أنظر إلى أخطائها. مشيت وراءها، وسأبقى معها رغم كل شيء. هل فهمتِ الآن يا ابنتي معنى أن تكون هذه الثورة ابنتي؟”.
العربي الجديد