هذه الحياة الشاغرة/ عقل العويط
ثلاثة حلول لا رابع لها لإنقاذ الإسلام والمنطقة العربية من الخراب الشامل: إنهاء الاحتلال الصهيوني لفلسطين، إقامة الدولة المدنية الديموقراطية في بلدان الشرق، وسحب الدين الإسلامي من الشارع وإعادته إلى أمكنته السمحاء في النفوس والعقول والمساجد.
هذه الحلول الثلاثة الجذرية، مترابطة، ومتداخلة، بحيث لا يمكن مباشرة الواحد منها بمعزل عن الثاني. الحلول هذه، تنسحب على أحوال “الأمة”، من أقاصي المغرب العربي الكبير إلى مسارح الفجيعة الدائمة في الشرق الأدنى، مروراً بوادي النيل، وظلاميات الخليجين العربي والفارسي. خارج هذه الحلول الثلاثة، لا أمل للإسلام؛ لا أمل للمسيحية؛ لا أمل للعقلانيين والعلمانيين؛ لا أمل لدولة القانون؛ لا أمل للحرية؛ لا أمل للعدل والحق؛ لا أمل للشرق العربي؛ ولا أمل للعرب والناس مطلقاً. بل أكثر: خارج هذه الحلول الثلاثة (معاً وفي آن واحد)، لا أمل لملء حياتنا الشاغرة. أفكّر خصوصاً في فلسطين، في لبنان، في سوريا، في العراق، في مصر، والأردن. مَن له أذنان سامعتان فليسمع!
* * *
لو كنتُ ظلاًّ لفعلتُ ما ينبغي للظلّ أن يفعله في مثل هذه الأحوال. لكنْ، كيف لي أن أخفّف هجيراً يتأجّج جمرُهُ، وأنا لا أملك أن أكون موضعاً لدمعة، ولا أن أكون غيمةً لسماء!
يا لخجلي، أنا الذي هو محضُ كيانٍ شاغر؛ أنا الذي محضُ هباء!
أخلد إلى أروقة رأسي لكي أحفظ البلاد وناسها في رأسي، لكني لا أعرف لماذا تتساقط البلاد، ولماذا الناس يتساقطون من رأسي. هل أقول: ما أفدح أن تأوي بلادٌ إلى روحٍ مثقوبة!؟ هل أقول: ما أصعب أن أكون شاهداً حين لا أستطيع أن يكون ظلاًّ، ولا أن أكون أعمى!؟
لو كنتُ ليلاً لكان في إمكاني أن أتيح للخيال أن يهرع إلى حنكة الغابات الكثيفة، إلى مكر الأودية، أو أن يهرب إلى أروقة العقل. لكنْ، هل رأيتم ليلاً لا يستطيع أن ينجّي فريسةً تحت جناحيه، من أنياب وحش!؟ هل رأيتم خيالاً لا يعرف أن يهرب بخفقات طفل!
لقد رأيتُ في حياتي الضعيفة هذه ما لا يُرى من أوجاع، وعاينتُ ما لا يُعايَن من فجائع. لكني لم أستطع أن أقترح فكرةً جليلةً من شأنها أن تومئ للأوجاع الفردية والجماعية كي تسترشد إلى دواءٍ ولا إلى مأوى. فما أتعس حياتي!
هل ثمة في “الأمة”؛ هل ثمة في صحارى عقلها والروح، مَن يسترشد بالحلول الثلاثة المقترحة أعلاه، لنوقف خراباً وجودياً طال أمده، ونفتح باباً على شيءٍ قد يكون يشبه أول الضوء؟!
أنا الشاهد؛ لو كنتُ حجراً، لكان ذلك أرأف بحالي.
أنا الشاهد؛ لو كنتُ وجعاً، لكنتُ فعلتُ ما يجب أن يفعله القتيل بأوجاعه!
العدم، هو ما يلي أحوال الحجر. الذهول، هو ما يلي عقل الوجع.
هل أقول: إنه ذهول العدم؟! هل أقول: إنه العدم الذاهل عن كونه عدماً؟!
ما من عذابٍ أكبر من هذا: أن يرى المرء كلّ شيء، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً.
لا أتكلّم عن نفسي. بل عن العالم كلّه، ونفسي.
نحن في جحيم العدم. لماذا لا نفعل شيئاً عظيماً لنخرج من هذه الجحيم؟!
واجبنا أن نفعل شيئاً يتمثل في الحلول الثلاثة المقترحة أعلاه. واجبنا المطلق أن نخرج من هذه الجحيم.
لقد قرأتُ الكثير عن الأساطير والمعجزات والخرافات والأديان، لكني لم أقرأ فعائلَ لأمةٍ توازي فعائلَ خيرِ الأمم هذه. فما أسوأ أن تكون شاهداً قارئاً أيها الإنسان! ما أسوأ أن ترى حين لا تستطيع أن توقف سهماً عن مرماه! ما أسوأ أن لا تستطيع أن تشيح بناظريكَ عما تُحمَل عينٌ خجلى على أن تشهد عليه أو تغضّ عنه!
ليتني لم أولد لأعاين. ليتني لم أكتب لتقرأوا.
لكني أعاين وأكتب. وسأظلّ.
بودّي أن أقنع الشجر العالي بالاتضاع، بالانحناء قليلاً ليرفع القيظ عن هذه البلاد. بودّي أن أقول شيئاً مماثلاً للسماء. لكنْ، أيّ فائدةٍ تُرجى من شجرٍ متّضع، أو من سماءٍ منحنية!
للشجر العالي أن يستجيب. للسماء أن تخجل من تغاضيها. لكنْ، هل يكفي أن ينحني شجرٌ، وأن لا تتغاضى سماء، كي يتوقف جنونٌ كهذا الجنون؟!
وهل ينفع الإله؟! هل ينفع أن ينزل إلهٌ من عليائه ليقول لمؤمنيه ومُصادريه وسارقيه وجاحديه وقاتليه : كفى!؟
نعم، ينفع. بل يجب أن ينفع.
فهل ينزل إله؟!
من جلجلة فلسطين إلى حرائق بلاد الرافدين؛ من عذاب بلاد الأرز إلى آهات بردى الحرّى؛ كم غابةً نحتاج كي تترفّق بالهجير! كم سماءً يجب أن نخترع كيف تنحني على الجروح!
وإذا ترفّقت غابةٌ؛ وإذا انحنت سماءٌ؛ هل، بعدُ، يمتنع هجير؟! وهل، بعدُ، تندمل جروح؟!
نعم، يمتنع. نعم، تندمل. بل يجب أن يمتنع، وتندمل!
* * *
أمامي على المكتب، رواية ج. ك. رولينغ الضخمة، “منصب شاغر” (دار نوفل). الروائية هي مؤلفة سلسلة هاري بوتر الشهيرة، أما الرواية فهي عن بلدة باغفورد الصغيرة في انكلترا، يشغر فيها منصب العضو في المجلس البلدي، باري فيربراذر، بسبب الوفاة. قد تكون القصة عادية جداً، لكنها ليست كذلك. فتلك البلدة الصغيرة تصبح هي العالم. وذلك المنصب الشاغر يصبح هو الشغور مطلقاً.
لا أحبّ استخدام القراءات الأدبية لإسقاط دلالاتها على الواقعين اللبناني والعربي، لكن العنوان يجعلني أُستدرَج إلى قراءة الشغور الذي نحن فيه.
أقول في عقلي: ثمة شغورٌ فادح، فكري وروحي، دستوري وواقعي، دولتي ومجتمعي، عربي وإسلامي، وهو يقودنا إلى العدم؛ إلى العدم الكارثيّ، لا إلى العدم الخلاّق. وعليه، يجب العمل الفوري على وضع حدٍّ لهذا الشغور. فإذا كان ثمة بيننا حقاً مَن يريد أن يبحث عن إنهاء الاحتلال الصهيوني وتحرير فلسطين؛ وإذا كان ثمة بيننا حقاً مَن يبحث عن إقامة دول الحق والعدل والحرية والديموقراطية؛ وإذا كان ثمة بيننا حقاً مَن يريد إنقاذ الإسلام، فيجب وقف ما هذه الكارثة الوجودية والكيانية ذات الرؤوس السرطانية المثلثة!
ليست المناصب الشاغرة هي ما يشغل البال في بلادنا، ولا في المشرق العربي، ولا في بلاد الإسلام كلّها. يشغل البال أن ثمة بلاداً شاغرة. وأن ثمة حياةً هي شاغرة.
في حالٍ كحال لبنان، حيث شغورٌ مريعٌ وشامل؛ أخلاقي، قيمي، عقلي، روحي، فكري، دستوري، قانوني، رئاسي، حكومي، برلماني، أمني، سياسي، ديني، دولتي، مجتمعي…، هل ثمة حاجةٌ إضافية، لضرب مثلٍ عن الشغور المريب والمهين في منصب رئيس البلاد؟
كذا هي الحال في سوريا والعراق، وهلمّ.
* * *
على سيرة الشغور، يخطر في بالي ديوان متألق عنوانه “الهواء الشاغر” للشاعر بول شاوول، مثلما يخطر في البال ديوان la chaleur vacante dans (في الحرارة الشاغرة) للشاعر الفرنسي أندره دو بوشيه.
في الشعر، يعرف الشعراء أن لا بدّ من أن يُطالَب بالشغور، وأن تُستحَبّ الإقامة فيه، وأن يُستغرَق في عوالمه “العدمية”، تخييلياً واختبارياً، لأنه اختراعٌ هائل يخلق مسافات التجوال في هواء الكلمات الشاغر، وفي الفضاءات غير المحسوبة وغير المعقولة.
أما في الواقع، فيجب ملء الشغور.
أبحث في الشغور على مستوى الاختبار الشعري، فأشعر بلذةٍ ما بعدها لذة، تتمثل في الهرب فيه، لأن في ذلك عبقريةَ خلاصٍ بالكلمات.
أبحث في الشغور العقلي الذي يطعن الواقع العربي والإسلامي، فأشعر بالهلع والرعب، لأن لا خلاص بالتهرب (كما هي الحال) من إيجاد حلول شُجاعة وجوهرية له.
انطلاقاً من هذا المعطى الواقعي؛ هناك ثلاثة أمور يجب أن يباشَر العمل فيها على الفور، ومهما طال الأمد، لإنقاذ الإسلام والمنطقة العربية والإنسان من الخراب الشامل: إنهاء الاحتلال الصهيوني لفلسطين، إقامة الدولة المدنية الديموقراطية، وسحب الدين الإسلامي من الشارع وإعادته إلى أمكنته السمحاء في النفوس والعقول والمساجد.
مَن له أذنان سامعتان فليسمع. مَن له عينان فليرَ. وليقرأ. ومَن له عقل فليعقل!
النهار