هذه المرّة الشعبُ السوري أكثر تحضراً وتمدّناً من النظام بما لا يقاس
محمد الحاج صالح
كتبت مقالاً تحت عنوان مماثل لهذا العنوان عند بدء الثورة السورية، وقد حدث الكثير بعد ثلاثة أشهر على الثورة. ليس من تحفظ بعد كل ما حصل في أن نقول إن الشعب السوري أثبت وبكل المقاييس أنه الأكثر تحضر وتمدنا بمسافة لا تقاس من النظام الذي يحكمه.
كان لدى الشعب السوري إحساس فادح بالظلم، وكان كثيرون يعرفون وكثيرون لديهم الحدس الصحيح بأنهم أكثر لياقة وتمدناً ممن يتسلط عليهم. أمّا الآن فالناس على يقين من هوة أخلاقية واجتماعية وسلوكية تفصلهم عن “الهمج” الذين يديرون البلاد.
كتب الناقد السياسي ياسين الحاج صالح على صفحته في الفيس بوك:
“لما نشوف كيف عم تحكم البلد، وكيف إنو اللي عم يحكموها هم ناس حيّا الله، يصير السؤال عن البديل كتير بايخ. أي حدا ممكن يكون بديل، وأحسن كمان!” كلام ياسين هذا خلاصة لوجهة نظر السوريين
الآن.
إن أي مراقب محايد سيلمس المسافة الدهرية بين خطاب ممثلي النظام على الفضائيات وممثلي الناس. ممثلو النظام يكذبون لأن الواقع يهدم فكرتهم عن خطاب النظام. وهم ينافقون. وهم يتواقحون، فكم منهم من شتم محاوره بل وشتم المذيع. وهم اتهاميون يتهمون الآخرين بما فيهم وهذه آلية نفسية معروفة. وهم انكاريون ينكرون أي حدث لا يتفق وفكرتهم، إنهم ورغم القليل من التراجع تحت ضغط الثورة لازالوا ينكرون أن احتجاجات واسعة تعمّ سورية. هم يستخدمون لغة لا لباقة ولا لياقة ولا تحضر فيها.
على صفحات الفيس يجد المرء أن لمناصري النظام وفيهم من يتبوأ مراكز مهمة يستخدمون لغة شوارعية منحطة تهتم بقذارة الشتم للأعضاء الجنسية للأمهات وللأخوات تحديداً، ويلمس المرء أنهم يعتبرون مثل هذا الاستخدام للغة فيه رجولة وذكورة ستجعل من الخصم مستخذياً من أجل الخلاص بجلده ومن أجل من يعزّون عليه. ويعلم السوريون الذين مروا بتجربة الاعتقال أن هذه اللغة ومفرداتها التي تتناول الأعضاء الجنسية للأم والأخت والزوجة هي لغة رجال الأمن الرسمية.
التاريخ السياسي الحديث لسورية مليء بقصص الإهانة الهمجية للسجناء. بعضها كان يتجاوز بلاغة اللغة المتوحشة إلى الممارسة الفعلية مثل اغتصاب الأم أو الأخت أو الزوجة أو تعريتهن إهانة السجين أمام زوجته أو أمه أو أخته.
لم يظهر الانحطاط الأخلاقي والنقص الحضاري هكذا فجأة لقد كان موجوداً وإن كان مداناً وسرياً، لكن ومع استلام البعث للسلطة 1963صار جزءاً من السياسة ضد الخصوم وتسارع بعد استلام حافظ الأسد لها، وأصبح ركناً ركينا في السياسة الأمنية ولأضحى السلوك غير المتمدن والهمجي علامة على إخضاع المجتمع وسلامة سياسة القائد الخالد.
من الأمثلة الباكرة خطابٌ للشخصية الثانية إبان حكم حافظ، أي أخيه “رفعت” في مدرج الجاحظ في كلية الآداب في حلب 1975 حيث أنشأ يعدّد كيف سيحوّل التعليم العالي والجامعات، ومنها بالطبع جامعة حلب، إلى قلعة لأبناء الفقراء والفلاحين وضد الامبرالية لينتقموا من أبناء الاقطاعيين والبرجوازيين والرجعية. بالشيفرة السياسية السورية يمكن للمرء طبعاً أن يفسر هذا الكلام إلى حرب معلنة من النظام على مجتمع المدن وصروح العلم. إنه كلامُ “بول بوت” سوري في التعليم والثقافة. الأمر تحقق فعلاً تدريجياً لتتراجع الجامعات السورية إلى مراتب جد متخلفة في التصنيفات العالمية، وليتولى شأن الجامعات الأسوأ بين الكادر التدريسي والتنظيمي وبهمّ وحيد هو التجسس على الطلاب والحفاظ على السلطة.
كنتُ أنا شخصياً شاهداً على حلقة رمزية من مسلسل دفع المجتمع السوري إلى الهمجية دفعاً، حدث هذا في دمشق في العام 86. كنت أنذاك في باص للنقل الداخلي، عندما حدث ضجة في مؤخرة الباص. كان بضعة شبان حليقو الرؤوس يرتدون بدلات مموهة تدل على أنهم أغرار في إحدى القطعات الخاصة المدللة يضربون بكل عنف شاباً وحيداً يرتدي ثياباً أنيقة. لم نسمع من الشاب أي كلمة، فهو كان مشغولاً بالتكور على نفسه كي لا يصاب رأسه، ومع ذلك فشل في هذا. وعندما توقف الباص وقذف الشاب إلى الشارع ولحقه الجنود الزعران، وأشبعوه ركلاً إلى أن انفرد جسده مستلقياً بلا حراك. من الشتائم عرفنا أن الشاب شامي وأنه تأفف من سلوك أولاء ورميهم للسجائر كيفما اتفق في الباص. كانوا يضربونه ويقولون: نحن هنا لنعلمكم ونربيكم يا أحفاد تيمورلنك. أنت من تريد تعلمنا يابن الـ… يا أخو الـ… ربما لفظ الشاب كلمة حضارة أو تمدن أو شي من هذا النوع… لأنهم وهم يلبطونه… كانوا يصرخون به: وهاي منشان الشام وهاي منشان الحضارة!
انعكس الانتصار السياسي الغاصب للسلطة في سورية بثقافة مرافقة بسيطة ومُدّعية. تستخدم الرموز بكثافة لقهر الخصم، ولا تعير العمق ولا المعنى ولا الجذور الأخلاقية كبير اهتمام. تُلخِّصُ التقدّمَ بتحطيم العلاقات المدينية التقليدية وبشعارات ذات طابع اشتراكي وبلباس المرأة وشرب الكحول وكره المدينة والتغني الرومانسي بالطبيعة…
شهيرةٌ هي خطبة الأسد الأب التي ذكر فيها أنه ليس طالب سلطة (كذا!) وأنه يفضل لو أنه كان بلا مسؤولية ليتمتع بضوء القمر في ليل القرية وبرائحة البيادر! قال هذا في الوقت الذي أمر بالحل الأمني في الثمانينيات، الأمر الذي أدى إلى أكثر من أربعين ألف قتيل وسبعة عشر ألف مفقود ومئات الآلاف من المعتقلين الذين قضى بعضهم ربع قرن في السجون. والأدهى أن الأب والابن استطاعوا وياللغرابة أن يقولا تقريباً ذات الجملة! الأول وبعد أن حلف أيماناً مغلظة، قال إنه لو علم أن سورياً واحداً لا يريده في الحكم لاستقال! والابن قال “إذا كان الناس لا يريدونني فإنني سأستقيل، عندي حياتي الخاصة وأصدقائي…”.
فما الذي يقوله الناس في الشوارع؟!
والآن يظهر بوضوح مدى الخراب الذي أوصلت إليه تلك الثقافة. ثقافةٌ من هذا النوع هي صنو للديكتاتورية وللسلطة الغاصبة، وستتلاشى وتتصاغر مع زوال الديكتاتورية وتصاغرها. نحن نشهدُ منذ الآن تهافتها وتلاشيها كما تلاشت ثقافة شتم العرب السخيفة إثر انطلاق الثورات العربية، وهي الأخرى ثقافة امتهنتها نخبٌ معيّنة وجدت في إهانة وشتم العرب وسيلة للتظاهر بالتحضر والتمدن، تماماً كما حاولت نخبٌ سورية إن بالتصريح أو بالإيحاء أن تقول إن النظام السوري أكثر تحضراً وتمدناً من الشعب السوري.
يقول أحمد العساف في صفحته على الفيس بوك عن “الشعب” الذي يخرج للاحتجاج في دير الزور:
“بكل مظاهرة عم لاحظ تعافي الانسان يلي دأب النظام على قهره وتخريبه .. ومش حالة آنية سريعة التلاشي بالعكس .. وصحيح الاقتصاد عم ينهار والوضع المعاشي عم يصعب بس ثرواتنا الحقيقة يلي جواتنا رجعت تتدفق من جديد .. سورية بخير أهلها ..”
بالفعل يتواتر الآن أن الناس تتغير وأنها تميل إلى التضامن والتعاون والتراحم والمودة والسرور والفرح على الرغم من الجهد والتضحيات. ألا يشير هذا إلى أن النظام عمل على تكريس عكس هذه القيم؟ بلى والسوريون هم العارفون بهذا حتى منهم من يوالي النظام.
وبلى ستؤدي الثورة إلى تصحيح سلّم القيم الذي قلبه النظام. ولم يبق وقتٌ ليصرف في إثبات أن النظام وأدواته همجٌ ناقصو تحضر وتمدن وفاسدون أخلاقياً.
الشعب أرقى منهم وأكثر تمدناً وتحضراً
محمد الحاج صالح
الحوار المتمدن