هزيمة الغرب في سورية/ برهان غليون
تعاقبت، في الأسابيع والأيام الأخيرة، المبادرات الدولية للخروج من المأزق الخطير الذي وضعت فيه سياسة الإبادة الجماعية والتدمير المنهجي لموطن السوريين ومدنهم وقراهم المجتمعَ الدولي بأكمله. وتوالت اللقاءات بين قادة الدول الكبرى وخلوات مجلس الامن للتداول في مخاطر ترك الوضع السوري نهب النزاعات الدولية والإقليمية. ويكاد لا يحصل لقاء قمة اليوم بين الدول الفاعلة من دون أن تكون القضية السورية في محور مناقشات الزعماء ومداولاتهم.
تبرهن هذه التغيرات السياسية على الصعيد الدولي حقيقة أن الاستعصاء الذي عرفته مفاوضات الحل السياسي في سورية لم يأتِ نتيجة انقسام المعارضة، كما كانت تدّعي وتتذرع دولٌ كثيرة، ولا نتيجة رفض المعارضة أو السوريين الحوار فيما بينهم، وعجزهم عنه، وإنما بسبب الصراعات الدولية والمواجهات الجيوسياسية التي استخدمت الصراع السوري لخدمة أغراضها وأمسكت بمفتاح الحل فيه. وفي هذا السياق، ينبغي أن نفهم التدخلات الإيرانية والروسية التي هدفت إلى الحيلولة دون انتصار الثوار السوريين، والمساومات الدولية المستمرة وغير المعلنة التي قلبت مسار الحرب أكثر من مرة، ومنعت أي حسم عسكري بانتظار نضوج العروض السياسية.
ولعل أهم هذه العروض الجديدة ما تداولته الصحافة عن عرض قيل إنه قُدّم من الغربيين للروس لقاء تخليهم عن الأسد وقبولهم الإفراج عن مفاوضات الحل السياسي، وإنهاء المحنة السورية. وحسب ما أوردته الصحافة، تضمن العرض الغربي ثلاثة بنود. الأول الاعتراف لروسيا بقاعدتيها العسكريتين، البحرية والجوية، في طرطوس وحميميم، على المتوسط، وضمان الحفاظ عليهما حتى بعد تغيير النظام، واعتبار ذلك حاجةً ومصلحةً شرعية لروسيا لترتيب أوضاع أساطيلها في المتوسط. والثاني تقديم الأموال الضرورية لإعادة إعمار سورية وإنقاذ موسكو من السقوط في مستنقع مشابه للذي وقعت فيه واشنطن في العراق، ولا تزال تغوص في وحوله من دون أن تعرف كيف تخرج منه، والثالث استيعاب روسيا في النظام الغربي، واعتبارها شريكاً في أي قرار يتعلق بالمسائل الدولية، بحيث لا يتم البحث في حل أي مشكلة دولية من دون مشورتها ومشاركتها.
إذا صحَّ خبر هذا العرض، نستطيع القول إن هناك انقلاباً كاملاً في السياسة الغربية تجاه
“الاستعصاء الذي عرفته مفاوضات الحل السياسي في سورية ليس نتيجة انقسام المعارضة، كما كانت تدّعي وتتذرع دولٌ كثيرة”
روسيا، واعترافاً من الغرب بهزيمته في سورية في المرحلة الراهنة، واستعداده للعمل مع روسيا للخروج من لعبة التحطيم المتبادل، المستمرة منذ سبع سنوات، والتي كانت سورية وشعبها ضحيتها الرئيسية.
أعاد هذا النبأ إلى الذاكرة مداولاتي مع الروس والغربيين في بداية تشكيل المجلس الوطني السوري، والذي رأسته شخصياً في أشهر إطلاقه الأولى. وهي تظهر، كما سأبين، أن الغرب كان يستطيع، بأقل من هذه التنازلات بكثير، أن ينال تعاون موسكو في البحث عن حل سياسي جدي، ويحول دون حصول الكارثة السورية، لو قبل بوضع حد لاستهتاره بروسيا ومصالحها، واعترف بها طرفاً مؤهلاً للحوار، وشريكاً في التعاون على التخفيف من حدة الصراعات والنزاعات الدولية، تماماً كما حصل في مواجهة الحرب ضد “داعش”، وكما يحصل الآن عندما يزحف الغرب على أعتاب الكرملين، بحثاً عن حل يخرجه من الورطة التي وضع نفسه فيها، بسبب تخبط سياساته، وموقفه الهزيل والخاطئ معاً من الثورة والمعارضة السورية، ومن أحداث الربيع العربي عموماً.
(1)
بعد أسابيع من تشكيل المجلس الوطني السوري، تلقيت دعوة من وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، لزيارة موسكو، والتباحث حول المسألة السورية في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 . وكان ذلك مصدر تفاؤل كبير لنا، لاعتقادنا أن من الممكن أن يفتح ذلك نافذة في الموقف المتصلب والمعادي الذي وقفته موسكو من الثورة السورية في الأشهر الثمانية الماضية التي امتلأت فيها شوارع سورية وساحاتها بدماء المتظاهرين السلميين. لكنني من اللحظة الأولى للمقابلة، فوجئت بخطاب عنيف وقاس يستهدف قضيتنا، حتى لو أن جام غضب الوزير الروسي قد انصب على خداع الغرب وسياساته العدوانية. والواقع أن حديث لافروف مع وفد المجلس كان بأكمله مرافعةً اتهاميةً لا تنتهي ضد الغرب وسياساته، في العراق وليبيا وأوروبا، وتدخله الدائم في الشؤون الخاصة بالدول، وتحضيراته للتدخل المقبل في سورية، ومن ثم تأكيد تصميم الروس على مقاومة هذه السياسة، وعدم التراجع خطوة واحدة هذه المرة.
كان جهدي كله منصباً عندما يأتي دوري في الكلام على إعادة الحديث إلى الموضع السوري، والتذكير بما يحدث في سورية، والتداول في إمكانيات وفرص التفاهم لوضع حد لسفك الدماء، والتوصل إلى مخرج من الأزمة المتفاقمة. لكن في كل مرة كان لافروف ينقل الحديث، من دون مقدمات، إلى موضوع خداع الغرب وعدائه الروس والشعوب، ويتجنب متعمداً أي دخول في النقاش الذي ذهبنا من أجله. عبثاً حاولتُ أن أجرّه إلى الموضوع السوري، وإقناعه بأن الأمر يتعلق بتغيير سياسي داخلي، ولا يهدف بأي شكلٍ إلى تغيير تحالفات سورية الاستراتيجية وتوجهاتها الدولية، وأن قاعدة طرطوس البحرية الروسية لن تمسّ، بل إنه لا مانع لدينا للسماح لموسكو ببناء قاعدة عسكرية إضافية. ومما حاولت أن أركز عليه أن الشعب السوري غيور على استقلاله وسيادته، ولذلك سعى منذ الاستقلال إلى إقامة علاقات قوية مع روسيا لموازنة علاقاته مع الغرب، وأن المعارضة حريصةٌ على الحفاظ على هذه العلاقات التاريخية، والتعاون المثمر مع روسيا، وأظهرت حماساً أكبر لهذه الفكرة فقلت: لو تخليتم أنتم عنا نحن لن نتخلى عنكم، لأننا لا نريد أن نسقط في دائرة التبعية الأحادية للغرب.
ولا أعتقد أنه كان خادعاً، عندما رمى بعروضي جميعاً عرض الحائط، وبكلمة واحدة، قائلاً:
“يمكن القول إن هناك انقلاباً كاملاً في السياسة الغربية تجاه روسيا، واعترافاً من الغرب بهزيمته في سورية”
إن قاعدة طرطوس لا قيمة عسكرية لها، وهي مجرد منصة لتزويد السفن الروسية بالخدمات، وأن روسيا لا تبحث في موقفها عن مكاسب في سورية، وأن الأسد كان حليف الغرب ورجله، ولم يقم بزيارة لروسيا سوى بعد خمس سنوات من رئاسته، وأن ما يهم موسكو في هذا الموضوع هو منع التدخل الغربي في سورية والحفاظ على حق الشعب السوري في تقرير مصيره بنفسه.
وقد أصبح جلياً لي، بعد ما يقرب الساعة من المداولات، أن سورية بأكملها لا تعني روسيا كثيراً، وهي ليست في محور اهتمامها الرئيسي لتحقيق مكاسب مادية أو سياسية. كانت أكثر من ذلك بكثير، فرصة لا تعوّض من أجل إظهار إرادة روسيا التي لطختها العنجهية الغربية بالوحل، وقدرة موسكو على تحدي إرادة الغرب، وإفشال خططه في سورية، وعدم السماح له بتحقيق ما نجح به في العراق وليبيا، ومن قبل في أفغانستان وأوروبا الشرقية، بصرف النظر عن أي اعتبار آخر، ومهما كانت التكاليف والخاسرون الذين صدف وكانوا عموم السوريين.
قلت بعدما يئست من إمكانية زحزحة الوزير عن مواقفه المتصلبة، ورفضه الحديث عن المحنة السورية من وراء المبالغة في التركيز على عدوانية الغرب وتدخلاته العسكرية، وبهدوء بالغ: سعادة الوزير، انظرْ إلي جيداً. أنا لستُ غربياً، ولم آتِ إلى هنا ممثلاً للغرب، ولا لمناقشة الخلافات الروسية الغربية، ولا يهمني الآن مصير علاقتكم مع الغرب. أتيت إلى هنا ممثلاً لشعبٍ يذبح كل يوم مئة مرة، وهو شعب محب لروسيا، وصديق لها منذ سبعين عاماً، لا صديق الغرب، ثم إنك تتحدث مع إنسان قضى عمره في نقد سياسات الغرب، وأولها حماقته في غزو العراق وليبيا. إذا كانت لديكم حساباتٌ مع الغرب، فالرجاء أن لا تسعوا إلى تصفيتها على حسابنا، فنحن شعبٌ صغيرٌ لا يتحمل مثل هذا الصراع.
هذه كانت اللحظة الأولى التي خرج فيها عن تجهمه وحدَّ من لهجته العدائية، وأظهر ما يشبه الابتسامة علامة الرضى. لقد أدرك بالتأكيد أن رسالته قد وصلت. وأصبح بإمكاننا أن ننتقل إلى الحديث في محنة سورية ومأساتها. واستمر اللقاء ضعف الوقت الذي كان مخصصاً له، ثم بعد اعتذاره بسبب ارتباطاتٍ أخرى، أحالنا إلى مساعده ومستشار الرئيس الروسي ميخائيل بوغدانوف لمتابعة الحوار معه أكثر من ساعتين إضافيتين، وكان بوغدانوف في ذلك اللقاء مثالاً للود والتفهم والعطف على القضية السورية.
(2)
كان الغربيون، وهنا بيت القصيد، ينتظرون نتائج لقائي مع لافروف بفارغ الصبر. فقد كانوا يفتقرون لأي خطة عمل من أي نوع، عسكرية أو سياسية، في المسألة السورية، نتيجة الموقف الذي اختاروه في عدم التورط وتكرار نمط التدخلات الكارثية التي جرت في العراق وليبيا ومن قبل في أفغانستان. وكانت سياستهم الوحيدة تجاه الأزمة السورية الوصول إلى مفاوضاتٍ تجمع المعارضة والنظام. وهكذا شجعوا على إصدار مبادرة جامعة الدول العربية التي تحولت إلى مبادرة دولية باسم مبادرة جنيف، في يونيو/ حزيران 2012، واكتفوا بفرض بعض العقوبات على النظام. لكن العجيب أن كل رهانهم كان مرتبطاً بإقناع الروس بالضغط على النظام، لدفعه إلى قبول الحل السياسي، في الوقت الذي كان كانت فيه موسكو هي التي تضغط على النظام لتعطيل المفاوضات والاستمرار في الحرب، لتبقي مفتاح الحل في يدها وسيلةً للضغط على الغرب، ووضع دبلوماسيته واستراتيجيته السلمية في طريق مسدود، وتجرده من أي خيارٍ بديل.
أمام تصلب الروس، لم يكن لدى الغرب الذي وجد سياسته للحل السلمي والمفاوضات في مأزق لا مخرج منه، وحرم نفسه من أي بديلٍ باستبعاده كل الخيارات الأخرى، لم يبق في يده سوى الانتظار، ونصح المعارضة وتشجيعها على الحوار مع موسكو، ربما في انتظار معجزة انقلاب الموقف الروسي على نفسه، أو اعتقاداً بأن روسيا لا تملك وسائل الاستمرار طويلاً في سياستها المعطلة لمجلس الأمن.
في هذه الأجواء، كان من الطبيعي أن ينتظر الغربيون بفارغ الصبر نتائج لقائي الأول مع الوزير لافروف لمعرفة اتجاه الريح. وكان تقديري الذي نقلته لهم، من دون ذكر تفاصيل الحوار مع الوزير الروسي، أن موسكو ليست مغلقة تماماً على الحوار، ومن الممكن تطوير موقفها، لكن ما تطلبه ليس في متناولنا نحن السوريين، لسوء الحظ، ولا يهمها كثيراً كل ما نقدمه لها. قالوا كيف ذلك؟ قلت إن ما تطلبه موسكو لا يوجد إلا عندكم، وهو احترامها واعترافكم بها شريكاً في السياسة الدولية، وهذا ما يهمها أكثر من أي قواعد عسكرية واستثمارات اقتصادية في سورية. فهي غاضبة منكم وناقمة على تعاملكم معها بالعقوبات كدولة من الدرجة الثانية. وذكرت لهم بعض أفكار المرافعة العنيفة التي سمعتها من الوزير لافروف ضد سياساتهم. وأضفت: لذلك إذا أردتم ان تساعدونا، نحن السوريين، لا يكفي أن تفرضوا عقوبات على روسيا، ينبغي، بالتوازي، أن تفتحوا حواراً معها. كان الجواب حاسماً وفورياً ومن دون تردد : هذا مستحيل. وليس الحوار الذي تريده موسكو حول سورية فحسب. بالعكس إنها ترفض الحوار عن سورية، لأنها تريد أن تستخدم قدرتها على تعطيل الحل وسيلةً لفتح حوار شامل مع الغرب. وهذا ما فهمه الغربيون أيضاً ورفضوا الحديث فيه. وقد أدركت بعد هذه المحادثة أن قضيتنا، نحن السوريين، في مأزق عميق. وكتبت بعدها أنه لا مخرج من المحنة السورية إلا بأحد حلين: تفاهم بين موسكو وواشنطن أو تفاهم بين الأطراف السورية فيما بينها. وكلاهما بدا في تلك اللحظة بعيد المنال، بل من باب المحال.
كانت تلك من أكثر اللحظات يأساً في حياتي، ليس لأنني أدركت انسداد الأفق السياسي لأزمةٍ يذهب ضحيتها مئات الشباب كل يوم، لحساب عملية تصفية حساباتٍ في النزاع الغربي الروسي، وإنما أكثر من ذلك لأن المعارضة التي كنت أنتمي لها كانت في عالم آخر، غير قادرة على فهم مثل هذا الكلام ولا حتى سماعه، زاحفة نحو السلاح، واثقة من النصر، ومنغمسة في الإعداد لحقبة ودستور ما بعد الأسد، ومنشغلة بتوزيع مناصب السلطة والنفوذ فيها على الأحزاب والتجمعات والمجموعات المتنازعة.
(3)
في انتظار أن يرضخ الغربيون لمطالبها، قرّرت روسيا أن تستخدم سورية ميداناً لإبراز إرادتها القوية في المواجهة السياسية، وقدرتها على إنزال الأذى بمصالح الغرب العليا، أي بسمعته وصدقيته الاستراتيجية والأخلاقية، إلى أبعد مما كان الغرب يتصوّره، وتدفيع حكوماته
“لافروف: ما يهم موسكو
منع التدخل الغربي في سورية”
المستهترة بالقانون الدولي ومصالح الشعوب وسلامها، ثمن سياساتها السابقة، أكثر ما يمكن من الإذلال والإهانة. وهكذا أطلقت أيدي الأسد وحلفائها الإيرانيين على الجبهة العسكرية، وأغلقت طريق المفاوضات السياسية، واكتفت على الجبهة الدبلوماسية بالمناكفات في مجلس الأمن، وتقطيع الوقت بمشاوراتٍ لا تنتهي بشأن قراراتٍ أممية لا تكاد تصدر، بعد تفريغها من محتواها، وسحب الصاعق منها، حتى تفقد قيمتها، لتبدأ مشاوراتٌ جديدةٌ على قرارات بديلة، وهلم جرّا.
وبعكس ما يعتقد كثيرون، لم يكن استخدام الأسلحة المحرمة في الحرب السورية، بما فيها الكيميائية، مبادرة منفردة أو طائشة من الأسد وحلفائه الإيرانيين. وما كان في وسع هؤلاء أن يسمحوا لأنفسهم بتحدي الإرادة الدولية، الحساسة جداً في هذا الموضوع، لو لم تكن تلك إرادة الروس أنفسهم في سعيهم إلى إظهار مدى قدرتهم على الذهاب بعيداً في تحدي سياسة الغرب وتحطيم منظومة القيم والتقاليد والأعراف الدولية التي يقيم عليها أركان هيمنته العالمية. المستخدم الحقيقي والأول لأسلحة الدمار الشامل، التي طالما ادّعى الغرب أنه لن يقبل أن يستخدمها أحد، وبنى شوكته على فرض احترامها عندما يريد، هي موسكو. والهدف هو بالضبط كسر صدقية الغرب، وإظهار عجزه وقلة حيلته وتراجعه أمام إرادة روسيا الحديدية.
لقد أراد الروس تمريغ وجه الغرب في الوحل في سورية، وقد فعلوا ذلك، وربحوا هذه الحرب. وحاول الغربيون أن يغطوا على هزيمتهم وانسحابهم من المواجهة مع روسيا بتضخيم مسألة الحرب على الاٍرهاب، والتطبيل الإعلامي لمساهمتهم فيها، لكنهم في المحصلة النهائية خسروا الحرب الاستراتيجية، وتركوا سورية رهينة في يدي موسكو وطهران. لم يحصل ذلك بسبب التفوق العسكري الروسي عليهم، ولا بسبب افتقارهم الحنكة والحكمة والتفاهم فيما بينهم، ولكن لأنهم لم يفهموا طبيعة الحرب، وأبعادها العولمية وقرّروا منذ بداية الأحداث السورية أن يبقوا خارجها، وأن لا يتورّطوا فيها، أي أن لا يكون لديهم أي خيار، لا سياسي ولا عسكري، وأن يتركوا مفتاح الحل في يد غيرهم، واكتفوا من الخطط السياسية بالعقوبات والتصريحات العنترية استراتيجية لردع الروس أو الايرانيين وفرض التراجع عليهم. فخرجوا من الصراع قبل أن يبدأ، وأخفوا انسحابهم واستقالتهم الأخلاقية والسياسية وراء سحابةٍ هشّةٍ من الحديث عن انقسام المعارضة وتشتتها.
والواقع أن الغربيين قد فكروا بمنطق الحسابات والمكاسب المادية الصغيرة، واعتقدوا أن سورية لا تملك ما يثير الحماس لإنقاذها، وهي لا قيمة لها ولا أهمية، وأقنعوا أنفسهم بأن روسيا لن تفيد من احتلالها شيئاً، إن لم تدن نفسها بالسقوط في مستنقع أفغاني جديد. لكن الروس الذين لم يفكروا بسورية أصلاً، ولا بمواردها الطبيعية، ولم يهمهم مصير شعبها، لكنهم جعلوا من إبادته الجماعية درساً وعبرة للغربيين وغيرهم، نظروا إليها حرباً استراتيجية لتغيير موازين القوى وقواعد الاشتباك العالمية، وتعاملوا معها فرصة لتحطيم كبرياء الغرب وغطرسته وإنهاء استفراده بالقرار الدولي، أي مناسبة لتقويض صدقيته الاستراتيجية، وزعزعة هيمنته الإقليمية والعالمية، وتركيعه، وإظهار جبنه ونذالته أمام أنظار شعوب العالم أجمع.
هذا هو المعنى الحقيقي للعرض الذي تحدثت الصحافة عن تقديمه من الغرب لروسيا في سبيل وقف المذبحة السورية. وهو يمثل اعترافاً من الغرب بفشله في التعامل مع المسألة السورية، وخسارته المبادرة في الشرق الأوسط، بسبب رفضه الالتزام بمسؤولياته الدولية، والتخلي عن التضامن الإنساني الذي هو جوهر رسالة المنظمة الدولية ومواثيق الأمم المتحدة ومبرّر وجودها.
والسؤال: ماذا ربحت روسيا بالضبط، وهل هي قادرة على تحمل تكاليف هذا “النصر” الأكثر مرارة وخطراً من الهزيمة؟ وهل ينجح الغرب في ضم روسيا إلى دائرة القرار الدولي، ويقطع الطريق على ولادة حرب باردة جديدة تهدد بتحويل سورية إلى كورية ثانية، أم هو في طريقه إلى بلورة الرد الرامي إلى تقويض صعود روسيا والقضاء على مكاسبها الهشة الجديدة؟ للحديث بقية.
العربي الجديد