هزيمة حزيران.. درس نعيشه اليوم!
أكرم البني
لا يزال السجال يحتدم، منذ هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967 بين من يجدون أن التفوق الصهيوني المدعوم غربيا ليس السبب الرئيس لهزيمتنا وعجزنا بل هشاشة البيت الداخلي الذي نخره الفساد والقمع والاضطهاد، وبين من يتوسلون المسألة الوطنية لتأبيد تسلطهم وفسادهم وقهر شعوبهم، وهؤلاء لم يترددوا لحظة في الاستقواء بمعاركهم الشعاراتية عن أولوية مواجهة الأخطار الخارجية المحدقة وتحرير الأرض المحتلة من أجل تشديد القبضة القمعية وشن حملات مستمرة من الإقصاء والتصفية طالت معظم القوى الديمقراطية من دون أن يشفع لهذه الأخيرة الدم الغزير الذي سفكته دفاعا عن استقلال أوطانها. والأنكى أنه عندما تطلبت مصلحة الوطن إعادة النظر بطابع وكفاية هذه القوى التي تستأثر بالقرار السياسي بعد عجزها البين عن تحمل مسؤولياتها الوطنية، لم تجد الأنظمة «الوطنية جدا» نفسها معنية بهذا الأمر واستبسلت لحماية مواقعها وامتيازاتها، لتبقى استقالة الرئيس عبد الناصر بعد نكسة حزيران بادرة فريدة في التاريخ العربي الحديث.
لم يكن الدرس حول أولوية تحرير الإنسان من القهر والتمييز كي نقارع العدو ونسترد الحقوق، مقبولا قبل الهزيمة، وإن صار مسموحا به ومسموعا بعدها، لكن ليس لوقت طويل، فقد قطعت هذا المخاض معركة الكرامة الشهيرة عام 1968 وما عرف عن نجاح المقاومين الفلسطينيين والعرب في تكبيد العدو خسائر فادحة ما أنعش بعض التفاؤل في النفوس اليائسة، فبدأ المزاج الشعبي ينقلب، وأعيدت الروح للخطاب الآيديولوجي العتيق، الذي يقوم على أولوية المقاومة والتعبئة الوطنية وتأجيج الحماسة لمواجهة نتائج الهزيمة وآثارها، ما أضعف موضوعيا زخم الدعوات لإجراء وقفة نقدية مع الذات ومثالبها إن لم نقل أجهضها، ربما لأن الركون إلى السلاح ومنطق العنف والمكاسرة هو السبيل الأقرب لنوازع الثأر والانتقام التي اعتملت في الصدور بعد الهزيمة، وربما لأنها الطريق الأسهل بالمقارنة مع صعوبة طريق الحريات والتنمية والبناء الديمقراطي، وربما لأننا اعتدنا أمام أي كارثة تصيبنا أن نجنب الذات المسؤولية أو نتنصل من الكشف الجريء عن الحقائق عندما تخصنا، مفضلين الهروب إلى التفسيرات التآمرية أو إلى لغة الهجوم والشعارات الرنانة!
وقتئذ اكتسح ثقافتنا شعار الكفاح المسلح الذي رفعته المقاومة الفلسطينية وغدا ثابتا من الثوابت غير القابلة للنقاش، ومنح الأنظمة العربية فرصة لم تضيعها لتتوسل لغة السلاح والقوة وتعيد صياغة شرعيتها تحت شعارات الثأر من العدوان والاستعداد عسكريا لتحرير ما احتل من الأرض، والأهم للرد على دعاة أولوية التنمية الديمقراطية ومحاصرتهم، وتاليا لوأد ما استخلص من دروس الهزيمة وأسبابها، وتحديدا الدرس الأغنى والأهم المتعلق بالاستبداد المزمن وتغييب حقوق الإنسان العربي وحرياته، وبالفعل كللت هذه الجهود بالنجاح بعد التداعيات السياسية لحرب أكتوبر (تشرين) عام 1973، وجرى تكريس الثقافة القديمة ذاتها التي همشت حقوق الناس وحرياتهم وأدمنت التحلل من المسؤولية وعدم المساءلة والحساب، بل واعتبرت أي اعتراض أو نقد لمساوئ الحالة القاتمة حتى من موقع الالتزام الوطني، هو موضع شك وتخوين، وأي دعوة للاهتمام ببناء مجتمع ديمقراطي صحي هي أشبه بدعوة إلى التخاذل والاستسلام!
ونظرة موضوعية إلى الحصاد المر للشعارات الوطنية الطنانة مثل «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» تكفي لتؤكد عيانيا أنها لم تكن أكثر من رايات مضللة استخدمتها الأنظمة لتعزيز أسباب سلطانها وقهر شعوبها وحماية امتيازاتها والتنعم بما سلبته من ثروات، والتي لم يكن من هم لديها سوى الحفاظ على مواقعها وخداع الناس عبر اللهاث، على حساب حاجات المجتمع وشروط تطوره وتقدمه، لاقتناء الأسلحة المتطورة، ربما لاستعمالها في معارك الداخل أكثر مما في الخنادق وساحات القتال، الأمر الذي أفضى إلى تخريب البنية الوطنية وتدمير خلايا النمو والتجدد في المجتمع وتحويله إلى مجتمع ضعيف وخائف تتأكله أزمة عميقة متراكبة جراء عسكرة الحياة وامتصاص طاقات التنمية وقدراتها.
دار الزمن دورته وهاهو حراك المجتمعات العربية يتصاعد من أجل حريتها وحقوقها، وهاهو الشعب السوري يعاني من أجل ذلك الأمرين، قهرا وتنكيلا وتشريدا، ويعيد الكرة إلى ملعب أولوية التغيير الديمقراطي، وفي المقابل ثمة من يحاول إعادة تشغيل الاسطوانة المشروخة إياها، عبر الادعاء بأن ما يجري هو جزء من مخطط امبريالي صهيوني للنيل من المواقف الوطنية، متوسلا تفعيل المعركة الإعلامية ضد إسرائيل وتسخين المواجهة مع الغرب الاستعماري!
وإذ يستثمر أصحاب هذا الخيار حق الشعب السوري المشروع في استرداد أرضه المحتلة والمظالم التي يتعرض لها الفلسطينيون، ربطا بعجز المجتمع الدولي وتعنت العدو الصهيوني، فإن الأمر يبدو اليوم شكلا من أشكال الهروب للالتفاف على الأسباب الحقيقية لما يحصل في البلاد، والطعن بمطالب الناس المشروعة عن الحرية والكرامة، وبعبارة أخرى لم يجد البعض مع تصاعد الحراك الشعبي المناهض للاستبداد والعنف، غير توظيف المسألة الوطنية والأرض المحتلة واستثمارها لضرب عصفورين بحجر واحدة، أولا تجيير سلاح التعبئة الوطنية لرص الصفوف وكسب المترددين والأهم التحرر من الإحراج في ممارسة مزيد من الاضطهاد والفتك، وثانيا، ابتزاز حاجة المنطقة للهدوء والأمان، عبر توسيع رقعة الصراع ومده إلى بلدان الجوار والضغط على المواقف العربية والدولية لتحويل اهتماماتها عما يجري في الداخل نحو تبريد حرارة الخارج.
لقد قالت أحوالنا البائسة وهزائمنا المتعددة كلمتها بحق هذه العقلية، والواضح أنه ليس من هدف اليوم وراء إحياء الشعارات الوطنية والتحريرية سوى توظيفها لتسهيل إلصاق تهم الخيانة والعمالة بحق دعاة الكرامة والحرية في محاولة مكشوفة لتسويغ العنف الشديد، وتوهم القدرة على وأد الحراك الشعبي وصد رياح التغيير وتأبيد أشكال السيطرة والوصاية القديمة.
الشرق الأوسط