هكذا وبالضربة القاضية أنهى بشار الأسد المبادرة العربية
صالح القلاب
لأنه كان معروفا سلفا أن النتيجة ستكون هي هذه النتيجة، فإنه ما كان على الجامعة العربية أن تمنح نظام الرئيس السوري بشار الأسد مهلة جديدة ليسفك المزيد من دماء السوريين الأبرياء، وإنه كان عليها أن تلجأ مباشرة إلى الإجراء الذي هددت به وهو تعليق عضوية سوريا في هذه الجامعة وتفتح الطريق أمام حماية دولية لشعب من حقه، بعد مرور نحو ثمانية أشهر من الذبح والتشريد والاعتقالات، أن يطالب المجتمع الدولي بتوفير الحماية الفعلية له حتى وإن اقتضى الأمر استخدام القوة العسكرية.
تقضي المبادرة العربية، التي أكد رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني على ضرورة تنفيذها فورا، وقد كرر كلمة «فورا» أكثر من مرة، بوقف أعمال العنف كافة، من أي مصدر كان، حماية للمواطنين السوريين، والإفراج عن المعتقلين بسبب الأحداث الراهنة، وإخلاء المدن والأحياء السكنية من جميع المظاهر المسلحة، وفتح المجال أمام منظمات جامعة الدول العربية المعنية، ووسائل الإعلام العربية والدولية للتنقل بحرية في جميع أنحاء سوريا للاطلاع على حقيقة الأوضاع ورصد ما يدور من أحداث.
وقد نص القرار أيضا على أنه مع إحراز تقدم ملموس في تنفيذ الحكومة السورية تعهداتها الواردة في البند السابق، تباشر اللجنة الوزارية العربية القيام بإجراء الاتصالات والمشاورات اللازمة مع هذه الحكومة ومع مختلف أطراف المعارضة السورية من أجل الإعداد لعقد مؤتمر حوار وطني خلال أسبوعين من تاريخه. والملاحظ أن ما شجع الرئيس بشار الأسد على الإسراع لإسقاط هذه المبادرة وإفشالها «فورا» هو أن الجامعة العربية تعمدت، ليس عن جهل، وإنما عن قصد إغراق مبادرتها بإبهام بادر النظام وبسرعة إلى استغلاله بالبدء بمناورة حكاية «العصابات المسلحة وحكاية العفو عمن سيبادرون بتسليم أسلحتهم من غير الملطخة أيديهم بدماء أفراد الأجهزة الأمنية وعناصر القوات المسلحة».
كان على لجنة الجامعة العربية أن لا تُضمّن البند الذي ينص على وقف أعمال العنف كافة جملة «في أي مصدر» فهذا ساوى بين الجزار والضحية وبين القاتل والمقتول، وهذا أعطى النظام تفويضا للمسارعة بارتكاب كل الجرائم التي ارتكبها خلال الأيام الأولى من مهلة الأسبوعين لبدء الحوار الوطني الذي لم يحدد مكانه، والذي لم تحدد أطرافه، والذي لم يوضع له جدول أعمال يتضمن تصورا مسبقا لما من المفترض أن يتم التفاوض عليه وهل هذا التفاوض سيتم على أرضية بقاء هذا النظام مع بعض الإصلاحات الهامشية التجميلية أم إنه سيتم، كما تطالب المعارضة، لضمان انتقال السلطة من بشار الأسد وجماعته إلى القوى الجديدة البديلة بصورة سلمية؟!
والمؤكد أن اللجنة الوزارية المكلفة من قبل الجامعة العربية بالتعاطي مع هذا الملف الصعب والشائك تعرف أن تنفيذ أي بند من هذه المبادرة وفي هذا القرار يعني نهاية هذا النظام، وهذا ما كان قاله بشار الأسد كرد عاجل قبل التشاور مع إيران وروسيا والاتفاق على هذه المناورة التي باشر نظامه تنفيذها لإفراغ مبادرة العرب هذه من مضمونها، ولهذا، فإنه كان لا بد أن تدرك سلفا أن التحول «الدراماتيكي» للحكومة السورية من الرفض العنيد إلى القبول المتهالك يعني أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن هناك كمينا أُعد لتحويل الأنظار عن المذابح اليومية المستمرة منذ الخامس عشر من مارس (آذار) الماضي وحتى الآن، وتسليطا للضوء محليا وعربيا وإقليميا وأيضا دوليا على كذبة العصابات والزمر المسلحة، التي باتت مكشوفة حتى بالنسبة لأصحاب أنصاف العقول والمصابين بحول شديد في عيونهم.
لقد كان مستغربا ومستهجنا أن يتخلى نظام بشار الأسد عن «ممانعته» ورفضه لهذا القرار العربي، الذي يعني تطبيق أي بند من بنوده نهاية حكمه وحكم أبيه بعد أكثر من أربعين عاما، بعد الزيارة الخاطفة التي قام بها وفد الجامعة العربية إلى دمشق وبعد اجتماع الدوحة الذي انعقد بعد يومين من هذه الزيارة، لكن ما تم كشفه لاحقا هو أن السر يكمن في أن الروس والإيرانيين قد نصحوا القيادة السورية بأنه لتجنب إعادة الملف السوري إلى مجلس الأمن الدولي، فإنه لا بد من التخلي عن الرفض و«الممانعة» وأنه لا بد من الموافقة على هذه المبادرة العربية بكل بنودها ثم بعد ذلك الانتقال فورا للعبة العفو عن المسلحين في حال تسليم أسلحتهم ولعبة العصابات والزمر المسلحة وأيضا لعبة إطلاق سراح أكثر من خمسمائة من المعتقلين الذين شاركوا في هذه الأحداث «من غير الملطخة أيديهم بدماء رجال الأمن العام وجنود وضباط القوات المسلحة».
وحقيقة، فإن كل هذا قد جرى في هيئة مسرحية سخيفة مكشوفة حتى لأعمى البصر والبصيرة، واللافت هنا أن الجامعة العربية قد تغاضت عن تأكيدات رئيس لجنتها الوزارية التي كررها مرارا والتي طالب فيها النظام السوري بضرورة التنفيذ الفوري لوقف أعمال العنف والإفراج عن المعتقلين (بسبب الأحداث الراهنة) وإخلاء المدن والأحياء السكنية من جميع المظاهر المسلحة، وتركت نظام بشار الأسد بدل أن يبادر إلى التنفيذ الفوري إلى ما وافق عليه بعد تردد وممانعة، يفعل ما فعله ويواصل الذبح والتقتيل بعد الانخراط في مناوراته وألاعيبه المكشوفة.
والمستغرب حقا أن الجامعة العربية قد بقيت تلوذ بالصمت المريب بينما ذبح الشعب السوري على أيدي جلاديه بقي متواصلا بالوتيرة السابقة نفسها وأشد، وذلك مع أن المفترض أن تبادر فورا لاجتماع عاجل على مستوى وزراء الخارجية واللجوء الفوري إلى ما كانت هددت به وهو تعليق عضوية سوريا فيها بدل أن تعطي نظام بشار الأسد كل هذه الفترة التي شهد كل يوم من أيامها الطويلة سقوط أكثر من عشرين شهيدا، وكل هذا بالإضافة إلى عشرات الجرحى وإلى مئات المعتقلين، وإلى مواصلة التدمير الهمجي الذي شهدته مدينة حمص التاريخية منذ بداية هذه الانتفاضة، ولا تزال تشهده يوميا حتى الآن.
في كل الأحوال ورغم كل هذا التقصير الذي وقعت فيه الجامعة العربية ورغم الأخطاء «التكتيكية» و«الاستراتيجية» التي ارتكبتها لجنتها الوزارية، فإنه عليها في اجتماع بعد غد السبت أَن لا تدرج على جدول أعمالها إلا بندا واحدا؛ هو تعليق عضوية سوريا فيها والتوجه إلى مجلس الأمن الدولي بمناشدة عاجلة لتوفير حماية فعلية وحقيقية لشعب بات مستباحا من قبل نظام ديكتاتوري ثبت أنه لا يريد أي إصلاح وأن كل ما يفعله هو مجرد مناورات وألاعيب، وذلك حتى وإن اضطر، لتوفير مثل هذه الحماية، التي يجب أن تكون عاجلة، لاستخدام القوة العسكرية.
ويبقى، ونحن بصدد الحديث عن هذه القضية المهمة جدا، أنه لا بد من الإشارة إلى أن هناك من اعتبر أن هذا التحرك العربي له هدف واحد وهو اعتراض الدور التركي الذي بدأ يتخذ توجها جديا إزاء الأزمة السورية المستفحلة في الآونة الأخيرة، وهو بالتالي قطع الطريق على المساعي التي يفكر فيها بعض العرب وبعض غير العرب لإعادة ملف هذه الأزمة إلى مجلس الأمن الدولي، وهذا يعني – إذا كان صحيحا والمؤكد أن فيه شيئا من الصحة – أن المستفيد الأول هو إيران التي تعتبر أن هذه المعركة هي معركتها والتي ترى أن السماح لتركيا بأي دور في هذه الأزمة سيكون على حساب مشاريعها الاستراتيجية في الشرق الأوسط وفي المنطقة كلها.
وهكذا، فإنه على العرب أن يتعاملوا مع هذا الأمر بكل جدية، وعليهم أن يدركوا أن نجاح نظام بشار الأسد في كل هذه الألاعيب والمناورات التي يمارسها من دون خجل ولا تردد، وأنه إذا تمكن من إطفاء جذوة الانتفاضة على غرار ما فعله والده بالنسبة لانتفاضة «حماه» في عام 1982، فهذا يعني أن نفوذ إيران سيعم هذه المنطقة كلها وأن الشرق الأوسط سيصبح مجالا حيويا لدول
الشرق الأوسط