هلاّ حجرتم عليه!
إياد شربجي
برغم أنه يتمتّع بماضٍ قديم في تمجيد النظام السوري، وعائلة الأسد بالتحديد، كوصفه حافظ الأسد بـ”صاحب المواقف التي انبعثت عن إلهام رباني”، وباسل الأسد “الشهيد الذي بكت عليه السماء”، وبشار الأسد بـ”المعين الذي لا ينضب”، إلا أن صدمة الشارع بالشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي كانت كبيرة وغير متوقعة، وهو رجل الدين الأبرز في الشام، صاحب الأربعين مؤلّفاً، وأستاذ الشريعة بجامعة دمشق سابقاً، الذي كان يؤمّه أهالي دمشق وريفها، ويتتبعون خطاه ودروسه في كل مكان.
الصدمة هذه حدثت تحديداً إثر خروج أول تظاهرة في الثورة من الجامع الأموي بدمشق ظهيرة الجمعة 18 آذار، ولا يزال السوريون يتذكّرون تلك الليلة التي ظهر فيها البوطي على التلفزيون السوري ليقول بحق من ضُربوا وعذِّبوا واعتُقلوا داخل حرم المسجد: “إن جباههم لا تعرف الصلاة”! ولعلها من محاسن المصادفات أنني من أوائل من تعرّف إلى موقف هذا الرجل في الثورة، ذلك أن شقيقي عمار شربجي كان من بين أولئك الذين ضُربوا واعتُقلوا يومذاك داخل حرم الجامع الأموي، فاتصلت بأحد أبناء البوطي (وهو صديقي) لأطلب وساطة والده في الإفراج عن أخي، وإذ بالشيخ الجليل يتمنّع ويتنصّل ويتجاهل واجبه الإنساني تجاه واحد ممن كانوا يحضرون خطبته!
المتتبع لسيرة البوطي وتصريحاته وفتاويه المتلاحقة مذ ذاك، صار يدرك أنه آن لهذا الرجل أن يجلس في بيته، بل ربما صار لزاماً على أولاده ومريديه أن يحجروا عليه، حفاظاً على ما بقي له من مكانة علمية، واحتراماً للأيام المتبقية من عمره.
لن أعود إلى فتاوى البوطي المشينة في حق الثورة والثوار، وكيف تحوّل شيخاً للنظام، وتجييره الملفّق لآيات القرآن وأحاديث الرسول لتبرير الجرائم التي تُرتكب في حق السوريين، ولن أعلّق على تعاميه عن الانتهاكات الخطيرة التي يرتكبها النظام في حق كتاب الله والمساجد ورجال الدين، وهي فظائع لم يسبقه إليها إلا ألدّ أعداء الإسلام والمسلمين في فلسطين والعراق. سأكتفي فقط بالتعريج على ما قاله في خطبته الأخيرة، متحدثاً بصفتي سورياً يرى ويسمع ويدرك ما يحصل، وسأترك لرجال الدين تفنيد ما يسوقه “فضيلته” من شواهد قرآنية يدعم بها أقاويله وقناعاته، فهم الأقدر على ذلك، لا سيما أنه معروف بينهم بمعتقداته الإشكالية، كدفاعه عن المذهبية في الإسلام، وقد ألّف فيها كتاباً سمّاه “اللامذهبية أكبر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية”، وغيرها من المقالات والدراسات التي تشرعن المذهب الأشعري الذي يعتبر من أعتى معتنقيه.
في خطبته التي عنونها بـ”الإسلام والسياسة”، وألقاها يوم الجمعة 2 كانون الثاني 2011، قال البوطي: “لم يشهد التاريخ مؤامرة على الأمة بحجم ما تتعرض له سوريا اليوم، بما فيها الحروب الصليبية واحتلال المغول والتتار لبلاد المسلمين”!
إن هذه الجملة وحدها كافية لتبيّن لنا أي مبلغ بلغ الرجل من التيه، وهي دلالة واضحة على ثغرة خطيرة في طريقة فهمه للتاريخ وتحليله للواقع، إذ كيف له أن يصف ثورة شعبية نبعت من الداخل، ونعلم جميعاً كيف اشتعلت ولِمَ اتسعت وامتدّت، كيف يصفها بأنها صورة لاحتلال خارجي، وكيف يجعل من الضحية خصماً… بل عدواً أشد خطراً من الصليبيين والمغول والتتار؟
سنأخذ الأمر من وجهة نظره ونقول إن من يقصدهم إنما هم الأميركان، الفرنسيون، الأتراك…!
إذاً لنناقش الأمر بهذا المنطق، ونخضعه للمقارنة ذاتها التي أجراها هو.
الواقع على الأرض اليوم يقول إننا منذ انطلاقة الثورة قبل تسعة شهور وحتى اليوم لم نرَ جندياً واحداً من تلك الدول على أرضنا أو في سمائنا، لم نرَ أميركياً أتى ليبشّرنا بدين جديد كما فعل الصليبيون، لم نرَ فرنسياً دمّر بيوتنا كما فعل التتار، ولم نرَ تركياً أحرق كتبنا كما فعل المغول. لم نرهم يحتلّون مساجدنا، لم يقتلوا أطفالنا وشيوخنا ونساءنا، لم يهجّرونا. بل على عكس ذلك، يرفضون حتى المجيء لحمايتنا، برغم استجداء كثير من السوريين وندائهم لهم في جُمع “الحماية الدولية” و”الحظر الجوي” و”المنطقة العازلة”. فما هذا العدو الذي يتآمر عليك ويمتنع عن مساعدة خصومك المفترضين (الثوار في هذه الحالة)؟
بنظرة محايدة وواقعية لما يجري على الأرض اليوم نجد أن هذا “العدو” لم يمانع وصول إسلاميين إلى مقاليد الحكم في تونس ومصر وليبيا. والسؤال المطروح هنا: كيف لهذا العدو الذي جاء “ليجعل كلمة الذين كفروا العليا، وكلمة الله هي الدنيا”، كما ذكر البوطي في مكان آخر من خطبته، كيف له أن يسمح بوصول الإسلاميين على رأس حكومات لديها جيوش وأسلحة؟!
طبعاً هذا ليس تنزيهاً لتلك القوى والدول ذات التاريخ الحافل بالشرور، لكن في الحين ذاته لا يمكن إنكار أنها أنظمة براغماتية تتعامل مع الوقائع والمصالح، وحين وجدت أن لا مصلحة لها من مواجهة هذا التيار الجارف، “الربيع العربي”، تقبّلته وتعاملت معه كأمر واقع. ولو كان حكامنا يفكرون في الطريقة نفسها لما رأينا كل هذه الدماء تسكب على الأرض.
في حين إن ما قاله البوطي وما ساقه من اتهامات في عبارته تلك، إنما حقيقة تقذف بالاتهام على من سعى لتبرئته، فالنظام الذي يدافع عنه البوطي لدواعٍ دينية محضة كما يركّز دائماً، هو تحديداً من نكّل بالمواطنين (المسلمين) في الماضي، وهو من ينكّل بهم اليوم بالأسلوب نفسه والدافع نفسه، في الثمانينات؛ عشرات الألوف من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب قضوا على أيدي هذا النظام لمجرد ميولهم الإسلامية، أو لأنهم ضبطوا يصلّون أو يربّون ذقونهم أو لمجرد أن نساءهم يلبسن الحجاب. مدنٌ وقرى بأكملها سوّيت بالأرض باستخدام المدافع والطائرات الحربية، مساجد هدّمت وحُوّلت ملاعب رياضية، سجون غصّت بعشرات الألوف من روّاد المساجد وحفظة القرآن، في مقدمهم الصفوة من المتعلّمين من أطباء ومهندسين، عشرات ألوف من أولاد العائلات الكبيرة فرّوا مشياً على الأقدام إلى الأردن ولبنان كي ينجوا بأرواح أولادهم من نير هؤلاء المجرمين الذين اقتحموا مدنهم وقراهم (كالتتار) ولم يذروا شيئاً، ولم يراعوا حرمة. الفارّون أنفسهم هؤلاء لا يزالون مهددين حتى اللحظة بالإعدام إن عادوا بموجب مادة قانونية رقمها 49 اخترعها حافظ الأسد، ولا يزال مفعولها سارياً في دولة التحديث والتطوير. هذا في الثمانينات، أما اليوم فيتكرر المشهد بكل تفاصيله: هدم للمساجد، حرق للمصاحف، اعتداء على رجال الدين، تدمير للمدن، قتل للأطفال والنساء والشيوخ، وإذكاء لنار طائفية مقيتة.
طبعاً ما قاله البوطي أعلاه، مغالطة من مغالطات كثيرة في الخطبة نفسها، يصبّ معظمها في وصف المؤامرة “الكافرة” التي تريد النيل من نظام بشار الأسد.
فقد أقسمَ بأن لديه معلومات مؤكدة تثبت أن حكومة تركيا ارتشت بعشرات المليارات من الدولارات مقابل إسقاط النظام السوري “المسلم”، وخاطب زعماء الدول العربية متهكماً مشككاً في دينهم: “إذا كنتم لا تزالون مسلمين، فلِمَ لا تطبقون قول الله “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان”.
حقيقةً، إن نظرة فاحصة في سلوكيات هذا الرجل وتصريحاته، تثبت أنه واحد من أربعة نماذج:
– إما هو منافق قرر مثل كثيرين مقايضة كرامته وقناعاته على مكتسبات أخذها من النظام.
– وإما لديه قناعة دينية راسخة بما يفعل، عملاً بمذهبه الأشعري الذي يسوّق له بين طلابه منذ عقود.
– وإما أنه شيخ هرم بلغ من العمر عتياً وتداخل الخرف في عقله.
– وإما أنه مجرد مغفّل لا يعلم ماذا يحصل بدقة على الأرض.
وحيث أن جميع هذه النماذج الأربعة تفضي إلى ضرورة إنزال البوطي عن المنبر، وإلزامه منزله، إلا أنه يطيب لطلابه ومريديه تسويق النموذج الأخير منها، مستدلّين على ذلك بالقول إن شيخهم لا يملك تلفازاً في منزله. تبرير غبي يكفيه سؤال واحد ليطيحه: إذاً كيف يعلم الشيخ بقصص المؤامرة ويتحدث عنها؟!
أتساءل حقاً لماذا لا ينزل البوطي إلى شوارع دمشق، وهو ابن هذه البلدة الآمنة المؤمنة (كما يحب أن يصفها)، فيجول في شوارعها إثر صلاة الجمعة ليشهد عن قرب كل ما يراه أهل دمشق من انتشار للجيش والمسلحين والشبّيحة في الشوارع، وترصّدهم العنيف بالأحرار. فلينزل ويجرب أن يصرخ “الله أكبر” وليرَ ماذا يحصل به. بالأحرى لا داعي ليذهب، فالشبيحة مرابطون داخل المسجد الأموي حيث يخطب كل جمعة، وصاروا هم جمهوره في الشهور الأخيرة، وقد رآهم رأي العين يعتدون بكل وحشية وحيوانية على المصلين في التظاهرة إيّاها في 18 آذار، وقد ذكر لي أخي الذي اعتقل يومذاك أنه عندما اقتحم الشبّيحة حرم المسجد بعصيّهم وسكاكينهم، لجأ المصلّون إلى الشيخ، فصار طلابه يرفسونهم ويبعدونهم عنه ويدلّون الأمن عليهم، ثم انسلّ بينهم كالشعرة من العجين، ليعود مساءً ويؤدي قسَمه الشهير “إن جباههم لا تعرف الصلاة”!
يكفيه الشيخ ما وصل إليه، وعسى أبناؤه يلزمونه منزله، علّ السوريين ينسون ما فعل، ويخرج بعضهم في جنازته حين يتوفّى.