هل آن أوان ‘برهة سريبرنيتشا’ في سوريا؟/ صبحي حديدي
نيكولاس برنز دبلوماسي أمريكي مخضرم، عمل سفيراً، ومساعداً لوزارة الخارجية، وناطقاً باسمها، وعضواً في مجلس الأمن القومي، خلال عهود بيل كلنتون وجورج هربرت بوش؛ وهو، اليوم، أستاذ ممارسة الدبلوماسية والسياسة الدولية، في هارفارد. خبرته بشؤون الشرق الأوسط تبدأ من الخدمة في القدس والقاهرة ورام الله وموريتانيا، ولا تنتهي عند تمثيل واشنطن في قيادة الحلف الأطلسي، وإدارة ‘مكتب الشؤون السوفييتية’ في البيت الأبيض. ومن باطن هذه الخلفية، أطلق برنز صرخة مدوية قبل أيام، في مقال نشرته ‘بوسطن غلوب’، اتخذت هيئة سؤال: هل وصلنا في سوريا إلى برهة سريبرنيتشا، تلك المجزرة الشهيرة التي نفذتها القوّات الصربية في البوسنة والهرسك، سنة 1995، وسقط ضحيتها قرابة ثمانية آلاف مسلم، وتسببت في نزوح عشرات الآلاف؟
يكتب برنز: ‘إذْ تتواصل أعمال القتل الوحشية وتواصل أرقام النازحين في سوريا بالتصاعد، ينبثق سؤال أساسي. متى ستعيش الولايات المتحدة والقوى الكونية الأخرى ‘برهة سريبرنيتشا’، حين لا يعود في وسعها الوقوف في صفوف المتفرجين، فتقرّر بالتالي أنّ عليها التحرّك أخيراً؟’. متى، إذاً، سوف يدفعنا الثمن الإنساني الباهظ إلى تأمل حال اللامبالاة التي تحكم مواقفنان يتساءل برنز وهو يسوق بعض الأرقام: أكثر من 130 الف قتيل، قرابة 9.3 مليون نازح (في بلد يعدّ 22.4 مليون نسمة) فقدوا بيوتهم وأعمالهم وتشردوا داخل سوريا وخارجها، وحصار مطبق على مدن سوريا كبرى في حمص وحلب خصوصاً، تحت قصف همجي بالمدفعية والطائرات. ألا يتشابه هذا مع ذروة ما شهدته حرب البوسنة قبل 20 سنة، حين وقعت المجزرة الأبشع في تاريخ أوروبا منذ الحقبة النازية؟ ألم تكن تلك المجازر هي التي دفعت زعماء الغرب إلى التحرّك، بعد أن كانوا عازفين عنه؟
نعم، بالطبع، وهذه هي إجابة الحدّ الأدنى؛ وما يعفّ برنز عن الإشارة إليه هو أنّ نظام بشار الأسد تفوّق، في المجازر والمذابح والإبادة الجماعية، على أفعال نظام رادوفان كراجيتش. ورغم عناصر الاختلاف العديدة بين مسلمي البوسنة ومواطني سورية (من كلّ الأديان والطوائف والإثنيات، ولكن الأغلبية السنّية في واجهة القتل والحصار والتشريد)؛ فإنّ دروس حرب البوسنة، لجهة جمهورها المسلم تحديداً، جديرة بالاستعادة في ضوء سؤال برنز. وكما أنّ مجزرة سريبرنيتشا كانت تذكرة بمآلات إعادة ترتيب البلقان، على أعتاب انهيار المعسكر الاشتراكي وبدء تفكك الاتحاد اليوغوسلافي؛ فإنّ الاحتضان الروسي لنظام الأسد يؤشر على النقيض: إحياء منظومات الاستقطاب والقطبية، وإعادة فرض قوانينها على مسرح السياسة الدولية، وجنوح واشنطن ـ خلال إدارة باراك أوباما، على الأقلّ ـ إلى خيارات جيو ـ سياسية عريضة وفضفاضة، وقاصرة استطراداً.
وهكذا، قياساً على ما ينتظر الشعب السوري عموماً، ومسلميه السنّة خصوصاً، جرّاء اصطفاف فريق مناوىء شيعي المذهب أساساً، يضمّ مقاتلي ‘الحرس الثوري’ الإيراني، ومقاتلي ‘حزب الله’، وميليشيات العباس العراقية، وحوثيي اليمن، وما إليهم؛ من المشروع للمرء أن يستهدي بدروس، ومآلات، ذلك المزيج التعددي الحضاري الفريد الذي شهدته سراييفو، وكيف أخذ يتشوّه ويتفكك ويندثر. ليس بيد الصرب وحدهم، في الواقع، بل أيضاً منذ أن رهن علي عزت بيكوفيتش البلد وأهلها إلى الإرادة الغربية، وإلى بترودولار الإسلام الرسمي (السعودية بصفة خاصة)، مع غزل هنا وهناك للإرث اليهودي ـ المسيحي و’العمق الحضاري الغربي ـ اللاتيني’، حسب تعبيره. كلّ هذا التراكم انصبّ في جيبٍ مسلم صغير ضئيل ضعيف، زرعته أقدار التاريخ في قلب أوروبا وظلّ على الدوام جسماً غريباً مرفوضاً ومريباً، محاطاً بعواطف الضيق تارة والإشفاق طوراً، ولكن ليس بعواطف القبول به كـ’آخَر’ سياديّ، مسلم في معطيات وجوده الحضارية الجوهرية.
المجزرة ذاتها، في سريبرينتشا، كانت وتظلّ تذكرة، من جانب آخر، بالوضع العالق الذي يكتنف وجود البوسني المسلم؛ وهو الوضع الذي واصل، ولعله يفعل حتى اليوم، إعادة إنتاج الأزمات، استناداً إلى بضع حقائق راسخة رسوخ الجبال:
1 ـ البوسنة والهرسك بدت أقرب إلى أحجية الإثنيات المتقاطعة المتشابكة، والموزاييك العجيب الفاصل بين كرواتيا وصربيا، والتي يزيد من تعقيد وضعها أنها تضمّ المسلمين إلى جانب الصرب والكروات. وتاريخها، مثل تركيبها الديموغرافي، يجعل توتّر الإحساس بالهوية أضعف بكثير مما كانت عليه الحال في شمالها (حيث الكرواتي كرواتي ببساطة)، وجنوبها (حيث الصربي صربي). ذلك يعني أن وجود هوية بوسنية مستقلة، تسمح بتأسيس دولة تعددية ذات تجانس إثني وسيادة وطنية، تكشّف عن فكرة زائفة ومضللة.
2 ـ مسلمو البوسنة جزء من إرث الفتح العثماني الذي أقام في المنطقة نحو خمسة قرون. وهم، مثل غالبية مسلمي البلقان، مجموعات سلافية كانت تتبع مذهباً مانوياً ـ زرادشتياً، واعتنقت الإسلام بصورة جماعية هرباً من اضطهاد الكنيسة التي رأت في المذهب هرطقة تستوجب القمع. وقد تمتع هؤلاء بحرّية أكبر في ظل النظام الذمّي العثماني، الأمر الذي لم يمنع بقاء العديد من التوترات مع السلطات العثمانية، بسبب إدخال مسلمي البلقان بعض الشعائر والمعتقدات الوثنية أو المسيحية إلى فرائض الإسلام.
3 ـ تأسيساً على هذا الوضع التاريخي، ميّز مسلمو البوسنة أنفسهم عن الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك بما افترضوا أنها معطيات دينية خاصة بهم، ودون زعم امتلاك وعي محدد، بهوية قومية أو إثنية. ذلك لأنّ مثل تلك الهوية لم تكن قد وُجدت بالمعنى التاريخي، ولم يكن متاحاً إيجادها خارج ما فرضه الزعيم اليوغوسلافي الشيوعي جوزيف بروز تيتو من هوية إسلامية مصطنعة، أُريد لها أن تكون نقطة توازن أمام الخصومة الصربية ـ الكرواتية. وهذه سيرورة سياسية وسوسيولوجية، تواصلت في إطار الفيدرالية (تعطيل فكرتَيْ صربيا الكبرى وكرواتيا الكبرى)، أو ضمن جمهورية البوسنة والهرسك نفسها. ولم يكن بغير دلالة أن التسمية التي اختارها تيتو انطلقت مباشرة من التسمية الدينية: ‘مسلماني’.
4 ـ غياب أي وعي قومي بالكيان والهوية تراكم عبر السنين، ونجم عن عوامل موضوعية مثل ذوبان الإنتلجنسيا المسلمة في التيارات القومية الكرواتية أو الصربية، وغياب برجوازية إسلامية أو طبقات شعبية إسلامية ذات سمات محددة. كذلك غابت المنظمات ذات الطابع الإسلامي أيضاً، باستثناء ‘منظمة مسلمي يوغوسلافيا’ التي تحالفت منذ مطلع القرن مع الصرب تارة والكروات طوراً، وبلغت حدّ التعاون مع نظام الـ’أوستاشي’ الذي أقامه أدولف هتلر.
5 ـ بعد ستة قرون من هيمنة الإمبراطورية النمساوية ـ الهنغارية، والغزوات البونابارتية، والتغلغل الأوروبي الكاثوليكي والروسي الأرثوذكسي والشيوعي التيتوي، سوف يظل الكرواتي كرواتياً والصربي صربياً. وستظل ملفات كوسوفو ومونتينيغرو ومقدونيا وسراييفو هي علامات البلقان العتيق التاريخي، ونقاط الشدّ والجذب بين روسيا وبلغاريا وألبانيا وهنغاريا ورومانيا واليونان وتركيا والقوقاز، وبين ما يشبه الحرب الباردة الارتجاعية بين روما وبيزنطة، بين الحَمَل البلقاني الأسود والصقر البلقاني الرمادي، كما يقول عنوان كتاب ربيكا ويست الشهير.
وهكذا أشارت الخلاصات إلى إنّ مسلمي البلقان (أو ‘البشانقة’ كما يقول المؤرخ البوسني مصطفى إماموفيتش) كانوا أبرز الضحايا، بعد أن تعرّضوا إلى أسوأ ما شهده القرن من أفانين الإبادة، على يد الصرب والكروات، الأرثوذكس والكاثوليك، من الشمال ومن الجنوب، وفي عقر الدار أيضاً. تلك كانت حالهم ساعة المذبحة، وحالهم حين تابعوا بمرارة قرار محكمة لاهاي بتبرئة الحكومة الصربية، حيث امتزج عجز النظام القضائي الدولي مع قصور مفهوم الإبادة الجماعية، واختلط التطهير العرقي بالتطهير الثقافي، وتمّت التعمية عليهما معاً. وتلك كانت حالهم إذْ يستذكرون الفارق بين البوسنة 1990، والبوسنة 1995، والبوسنة 2007، وائتلاف هذا الموزاييك العجيب المتشكل من الأنظمة المستاسدة على الشعوب، والمعارضات القاصرة، وجيوش الميليشيات، ومؤسسات البترودولار، ورجال المافيا، فضلاً عن قادة ‘المجتمع الدولي’ وقضاة ‘محكمة العدل الدولية’…
هل ثمة عناصر تعين أمثال برنز على توثيق المقارنة، أبعد من معنى المجزرة، وحدها، وفي مستويات أخرى عميقة كانت وراء انتفاض السوريين ضدّ نظام استبداد وفساد وسلطة عائلية وراثية ومافيوزية؟ الأرجح أنّ العناصر كثيرة، حين يُنتفى عنها القياس الميكانيكي بادىء ذي بدء، وحين يوضع في الاعتبار ذلك العامل الحاسم الذي تجب استعادته مراراً وتكراراً: لا أحد، في سوريا، يدفع إلى التجييش الطائفي مثل النظام؛ من قمّة مؤسسته الحاكمة الأضيق، وحتى أوسع قواعده الموالية. ولهذا، لا حرب ناجعة ضدّ الميول الطائفية أكثر من تلك التي تُشنّ ضدّ النظام. ثمة، في الموازاة، عنصر آخر جدير بالاستعادة: السوريون السنّة، في التاريخ البسيط كما في علم الاجتماع الأبسط، ليسوا ‘طائفة’ تماماً؛ لأنهم ببساطة أغلبية الشعب الساحقة، ولا يصحّ توصيف ميول الأغلبية استناداً إلى المعايير ذاتها التي يخضع لها سلوك المجموعات المصغّرة. هذا، غنيّ عن القول، لا يلغي مفاعيل انتشار التشدد الطائفي لدى بعض أبناء السنّة، أسوة بشيوع التطرّف أو الاعتدال، العصبوية أو التسامح، التديّن أو العلمانية.
فإذا صحّ أنّ ‘برهة سريبرنيتشا’ استهدفت الإجهاز على ذلك الوضع التاريخي التعددي لمسلمي البوسنة، فإنّ برهة مشابهة لن تتكرر في سوريا إلا وفي رأس أغراضها تفكيك الوضع التاريخي التعددي الذي حكم علاقة السنّة في سوريا بأديان البلد الأخرى، وطوائفه وإثنياته. ذلك ما يتفادى برنز الذهاب إليه، فدونه محاذير ومحظورات، وثمة كليشيهات عتيقة وتنميطات راسخة؛ حتى حين يختتم الرجل مقاله بسؤال آخر: كم من الارواح سوف تُزهق في سوريا، قبل ان نشعر بالعار؟ في المقابل، زميله الروسي سيرغي لافروف لا يتورّع عن التحذير من ولادة ‘دولة سنّية’ على أنقاض نظام الأسد، وكأنّ الأخير هو بالفعل رئيس الأقليات!
الثابت أنّ أوان ‘برهة سريبرنيتشا’ قد آن منذ أشهر طويلة، وتؤشر عليه المذابح اليومية، وعمليات القصف الهمجي بالطيران والبراميل المتفجرة، وحصار القرى والبلدات والمدن، وحروب التجويع؛ فضلاً عن فتح أبواب البلد، على كلّ مصاريعها، أمام قوى الغزو الخارجي المذهبية والطائفية. والثابت، أيضاً، أنّ إحساس المجتمع بالعار، من عدمه، ليس الفيصل الحاسم قبيل اندحار الأسد؛ خليفة كراجيتش الأشدّ تغوّلاً، والأكثر تعطشاً إلى إراقة الدماء.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس