هل أفسد «الربيع السوري» على المرشد ليلته؟
عادل الطريفي
تحاول القوات الموالية للقذافي المحافظة على مواقعها في البلدات والقرى الغربية وسط نقص حاد في العتاد والتموين، ولكن ما هو أكثر قلقا بالنسبة لطرابلس هو تدني المعنويات، والخسائر الفادحة التي باتت تتكبدها قوات النظام على أيدي الثوار. حالياً، يراهن النظام على الخلافات داخل معسكر الثوار، وبروز قوى قبلية وأصولية متنافسة على كعكة السلطة حال سقوط العاصمة، وفي وقت يواجه فيه القذافي عزلة دولية، فإن هناك دولة تمتلك صلات بالعقيد ظلت صامتة فيما يتعلق بتطورات الحدث الليبي ألا وهي ايران. ويجادل أركان النظام في ايران بأن ما تشهده المنطقة – باستثناء سوريا – هو نتيجة حتمية لصحوة إسلامية متأثرة بالثورة الايرانية، ولكن بقوا متحفظين إلى درجة ما في تناول الشأن الليبي، وهناك أسباب متعددة لذلك.
منذ قيام الثورة الايرانية عام 1979 نشأت صلات بين نظام العقيد المتعطش للثورات وبين الملالي في طهران، حيث كانت ليبيا في مرحلة من المراحل من أشد الداعمين والمؤيدين لإيران. كانت هناك تحفظات ايرانية – بالطبع – على هرطقات العقيد، وآرائه الشاذة، وقبل ذلك كان هو المتهم الرئيس في اختفاء رجل الدين الشيعي موسى الصدر قبيل الثورة، ولكن نظام الملالي وجد في العقيد حليفا يمكن الركون إليه إذا ما تعلق الأمر بتدبير الخطط الانقلابية والعمليات الإرهابية، وقد أتت تلك العلاقة الغريبة أكلها، فقد زود العقيد الايرانيين بأسلحة وصواريخ روسية الصنع متقدمة خلال الحرب العراقية – الايرانية، وأسهم في مساعدة النظام على تصفية شخصيات معارضة والإمداد اللوجستي عبر شبكة علاقاته الوثيقة بالمنظمات والجماعات المسلحة حول العالم. بيد أن تلك العلاقة ليست السبب وراء سكوت ايران عن المسألة الليبية، فكما كان للعقيد فوائده كانت العلاقة معه دائما مضطربة، ولكن السبب الحقيقي هو أن بقاء العقيد وصموده ضد حملة الناتو أمران ضروريان لعدم تمكين الناتو من نصر سريع، وهما بمثابة تميمة ضد أن يتحول التوجه الدولي نحو التدخل في سوريا، أو إيران ذاتها، ولهذا لم يكن مستغربا تحول ايران إلى أشد المنتقدين للتدخل العسكري في ليبيا، حيث بات الإيرانيون يقولون علنا إن الشأن الليبي يجب أن يترك لليبيين أنفسهم، وليس للدول الغربية.
حاليا، يستشعر أركان النظام الايراني القلق من تبعات الزلزال الثوري الذي يلف المنطقة. صحيح أنهم بادروا بالترحيب به لأنه طال أولا خصومهم من الحكام العرب الاتوقراطيين الذين ظلوا عقودا يعملون ضدهم، وهو أمر شاركت فيه سوريا كذلك، ولكن حينما بدأ الشرر يطول حلفاءهم تغيرت اللهجة الايرانية من الترحيب بما حدث في مصر وتونس والبحرين إلى التشكيك والاتهام بمؤامرة غربية تطول سوريا. حين بدأت الأحداث في البحرين صعدت طهران من لهجتها تجاه دول الخليج، وحاولت جاهدة استمالة مصر بعد التغيير – ولا تزال – ولكن التردد المصري، والحسم الذي بادرت إليه السعودية والامارات مع دول الخليج، فيما يتعلق بالبحرين، أوقع ايران في اشكال أكبر، حيث لم تبادر إلى تنفيذ تهديداتها بالتدخل، بل على العكس شهدنا موقفا ايرانيا متأنيا ودبلوماسيا في تقدير الموقف. فقد حاول علي صالحي – وزير الخارجية الايراني – إعادة فتح قناة الاتصال المنقطعة مع السعودية، وتغيير نفس الخطاب المتشدد، وفي الوقت ذاته قامت إيران بما تحسن القيام به في الخفاء، وهو دعم حلفائها من وراء الستار بالمال والسلاح.
ولكن ما هو أكبر دلالة من ذلك، هو محاولة إيران تليين مواقفها وخصوماتها مع عدد من الدول التي تصادمت معها خلال العامين الماضيين، أي اللجوء إلى «خطة بديلة» كما نوه لذلك الزميل طارق الحميد في مقاله «هل اقتنعت سوريا بنهاية الأسد»؟ الإيرانيون يدركون أنهم يمرون بمرحلة خطرة، وأن منافسين اقليميين مثل تركيا والسعودية قد أبدوا جسارة – استثنائية – في مواجهة ايران من خلال الملفين البحريني والسوري، ولهذا فإن إيران تسعى إلى تعويض بعض خسائرها، واللجوء إلى خطط بديلة.
خلال الأسبوعين الماضيين، قدمت ايران خطابا تصالحيا مع أكثر من جهة،
منها روسيا ثم الهند وهي بادرة تدل على رغبة طهران في احتواء روسيا ثم الهند كدولة مستوردة لكيلا تلجأ لشراء احتياجاتها النفطية المتبقية من السوق الخليجية. وفي تطور لافت حول سياسة الاحتواء التي باتت تنتهجها إيران تجاه تركيا، أعلن الإيرانيون أنهم قاموا بعملية ناجحة لضرب معاقل حزب العمال الكردستاني (التركي)، حتى ان بعض وسائل الاعلام الايرانية زعمت أن قائد الحزب مراد كارايلان – خليفة عبدالله أوجلان – اعتقل، مما دفع بوزير الخارجية التركي داوود أوغلو إلى الاتصال بنظيره الإيراني للتأكد، وعلى الرغم من نفي الخبر لاحقاً، إلا أن تلك الحادثة كما يشير الكاتب التركي مراد يتكن لها دلالاتها فيما يتعلق بمحاولات ايران التقرب من تركيا وتذكيرها بالملف الكردي الحساس («ما الذي حدث حقاً بالأمس»؟ جريدة حريات 14 أغسطس).
قد تكون الأحداث السورية مفصلية بالنسبة للنظام الايراني، وهم – أي القادة الايرانيين – قد أثبتوا حتى الآن وقوفهم إلى جانب نظام بشار الأسد، ولكن يجب ألا ننسى أن الأولوية بالنسبة للملالي والحرس الثوري هو ديمومة النظام وليس التمسك بالأوراق الخاسرة. فها هي جريدة مقربة من المرشد الأعلى وهي واحدة من كبريات الصحف الإيرانية تنشر افتتاحية تطالب الأسد بـ«تفعيل إصلاحات سياسية قبل فوات الآوان» (جمهوري إسلامي 28 يوليو) محذرة إياه من مصير القذافي الذي استخدم السلاح ضد مواطنيه. في الوقت ذاته رشحت عن بعض القيادات الايرانية تصريحات مماثلة تدعو إلى إيجاد بديل في حال انسياق سوريا نحو الحرب الأهلية، والبديل كما يجادل بعض المراقبين ماثل في الأنباء التي تتحدث عن عزم طهران على تمول بناء قاعدة عسكرية في اللاذقية، قد تكون مركزا لبناء فصيل مسلح – على غرار حزب الله اللبناني – ليمثل المصالح الايرانية في حال سقط نظام الأسد. يضاف إلى ذلك تحول نوري المالكي إلى أحد الأصوات الداعمة لنظام الأسد بضغوط من إيران، كما أشارت إلى ذلك جريدة «نيويورك تايمز» (12 أغسطس).
قد يجادل البعض أن مثل هذه التقارير قد تحمل قدرا من المبالغة بغرض تصوير أن ايران لن تدع مصالحها تزول بانهيار نظام الأسد، ولكن الأكيد هو أن النظام الإيراني يعمل على إيجاد «خطة بديلة» لمواجهة التغيير الحاصل في موازين القوى بسبب الانتفاضات التي عمت المنطقة.
قبل أيام، أصدرت مؤسسة الثورة الإسلامية للبحوث كتابا بعنوان «الليلة الخامسة عشرة»، وهو كتاب توثيقي للقاء المرشد الأعلى السيد علي خامنئي بالشعراء الإيرانيين العام الماضي في الليلة الخامسة عشرة من رمضان، حيث اعتاد المرشد تخصيص هذه الليلة من كل عام لمناقشة الشعر الفارسي الذي يشكل أحد أهم هواياته منذ بدايات طلبه العلم، وقد سبق للمرشد تأليف كتاب في النقد الأدبي بعنوان «إقبال: تجلي الروح الإسلامية» (1991).
ربما كان المرشد أكثر انشغالا في رمضان هذه السنة من أن يخصص ليلة للشعر، ولكن إذا ما تأمل «الربيع العربي» في سوريا، الذي ربما أفسد عليه ليلته، فسيردد حتما قول حافظ الشيرازي:
شهور بها الأوطار تقضى من الصبا
وفي شأننا عيش الربيع محرم
الشرق الاوسط اللندنية