هل أنتمي إلى أقلية؟/ عايدة الجوهري
سألني ذات يوم الباحث السويسري هارمت ڤاهندريش Hartmut Fahndrish أن أكتب عن خصوصية تجربني ككاتبة وباحثة لبنانية تنتمي إلى أقلية دينية، وعن نظرتي إلى أحوال الطائفة التي أنتمي إليها، في إطار جمعه لشهادات عدد من الكتّاب اللبنانيين حول هذه المسألة. لحظتئذٍ خطر ببالي أني أنتمي إلى أقلية دينية. هالني أن أُفكِّرَ بذاتي كمنتمية إلى أقلية دينية سوسيولوجية، وأن أشهدَ وأُستجوبَ على هذه القاعدة. بدا لي سؤاله سؤالاً وجوديًّا منقوصًا، مفتعَلاً، ولو كان واقعيًّا، بحكم مجريات الأمور السياسية.
بدايةً يُزعجني مصطلحا «أكثرية» و«أقلية»، ولو استُعملا للدلالة على إحدى أسس الديموقراطية المعمول بها في الديموقراطيات البرلمانية، لأنّ حكم الأكثرية السياسية يعني، في بلدٍ يتدنى فيه الوعي السياسي، هيمنة الدهماء بأهوائها وأمزجتها ونزواتها على «أقلية»، قد تكون متنوِّرة، عارفة، خبيرة. فما بالك إذا كانت هذه الأكثريات والأقليات، أكثريات وأقليات جغرافية إنجابية، دينية، كما هي عليه الأحوال في لبنان ومصر على سبيل المثال؟ فما بالك أيضًا إذا كانت هذه الأكثريات والأقليات، ثقافية عرقية، كما كانت عليه حالة الأكراد في العراق وسوريا، وكما هي الحال عليه دائمًا في تركيا؟ ففي بلاد الأكثريات والأقليات الدينية والثقافية والعرقية تسقط السياسة ومعها الديموقراطية على مذبح العصبيات والأنانيات والمشاريع الفئوية.
هي مرآة استشرافية، تعكس واقعًا فعليًا هذه المرّة، أجبرني السائل بإصرار جم على النظر فيها. بدت لي هذه المرآة مشوَّشة، غير أليفة، تحتاج إلى صقل دؤوب كي تصلح للاستعمال، أخالني أتنصّل منها عمومًا بوعيٍ تام، حتى حين يحثُّني الآخرون الأكثريون على النظر فيها، بمقدار ما ينظرون إلى أنفسهم كأكثريين، ويريدون أن أنظر إلى نفسي بالمقاييس ذاتها. قد أتعثّر ببؤس بعضهم الأخلاقي. أرثي لهم. هو هروب ميتافيزيقي يقتضي التنكُّر للعبة المرايا، حرصًا على الذات وتماسكها وتمامها.
حين يُطلب إليك، أو يُفرض عليك النظر إلى نفسك كأقلّوي، يتأسّس في اللحظة ذاتها مأزقك ومأزق الآخرين، وتشرع في إعادة تعريق هُويتك لنفسك أولاً، قبل الاستجابة لرغبات الآخرين. ومهمّة تعريف الذات كأكثري ليس هي الأخرى بالأمر الهيِّن، لأنّ الذات في الحالتين ليست أكثر من واحدة وحيدة.
فور سؤاله عن أقلويتي، بادرته قائلة إني أفتقد ذاك الشعور، كوني أشعر ذاتي مواطنة افتراضية، تنشد تحقيق مواطنيّتها، بالتعامل معها قانونيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا كفرد قائم بذاته، لا بغيره، لا كعضوة في جماعة صاهرة مصهورة.
وبما أنّ مفهوم الهُوية ليس سلبيًّا بالمطلق، أفهمته أني أنتمي إلى أقلية عابرة للطوائف، قرّرت أن تكون ذهنيًّا وفكريًّا ونفسيًّا متفرِّدةً، ألاّ تشبه إلاّ نفسها، وهي تغالب، بجهد يومي، لحظوي، المشاعر المضادّة الكثيفة، التي يدأب على بثها الناطقون بأصوات الجماعات، سياسيون وإعلاميون و«مثقّفون»، ورجال دين مقدّسون، في المرئي والمسموع والمكتوب، وبدرجة أقل الأناس العاديون الذين نلتقيهم، لإنجاز مَهمّاتنا المهنية وغير المهنية.
أضفتُ أنّ هؤلاء الهامشيّين يشعرون بفرح التمرُّد على السائد، وبالانعتاق والحرية… فالحرية شعور داخلي جواني أولاً، قبل أن تكون معطى موضوعيًّا برانياً. إنهم يتغرغرون بهامشيتهم، لأنّ في الامتثال الأعمى للواقع ذل ونكران للذات، يوهنان «الأنا» وقد يُسفِّهان «الأنا العليا» إن لم يُلغياها.
وأردفتُ إني أستغرب أن يبقى المرء كما أرادته جماعته بعد أن قرأ ما قرأ، وبعد أن اختلط بمن اختلط، وخبر من خبر.
وافترضت أمامه أنّ هؤلاء لا يغبطون المثقفين المتسلّقين الذين انخرطوا بكل جوارحهم في الأفعال والخطابات السياسية المهيمنة، لأنّ للمساومة على الذات، أثماناً، يحاول إغفالها المتورّطون فيها.
منابر المتمرِّدين على هذا النظام شحيحة، يملك بعضهم مساحات ضئيلة جدًّا في وسائل الإعلام المعهودة، والبعض الآخر لجأ إلى المواقع الصحافية الإلكترونية، التي لا تجرؤ على الظهور في الأكشاك، وكثيرون يتلطّون في الفايسبوك، هربًا من عسف المسيطرين على وسائل الإعلام، ومن لم يجد منبرًا، أو يرغب فيه، اكتفى بالبوح في مجالسه الخاصّة، مكتفيًا بصوته البيولوجي.
أمّا عن الطائفة التي أنتمي إليها بحكم الولادة والقانون فلا أُخوِّل نفسي حق التكلُّم باسمها، وافتراض ما يشعر به أفرادها بصفتهم أقلية ديموغرافية دينية وسياسية، وتأويل تداعيات هذا الشعور على وعيهم لذواتهم، وسلوكاتهم، لأنّ الأحكام العامّة تقوم على التنميط وتتحوّل إلى كليشهات، كما أنّ افتراض التماثل والتشابه بين أفراد المجموعة الواحدة، فيه مجازفة علمية، وتزييف للحقيقة، علمًا أنّ ظواهر اجتماعية سياسية كهذه تستحقّ الدرس لأنّ للأقليات الدينية في ظل نظام طائفي تمييزي، خواص وميكانيزمات سلوكية دفاعية، قابلة للوصف والتدقيق، ككل الأقليات في العالم.
وإذا شئت باقتضاب شديد تعقُّب مزاجهم العام، فهم، كمختلف الأقليات في بلد متعدِّد وملتهب في آن، تنتابهم نوبات من الخوف على أمنهم. والخوف على الأمن الشخصي من أرذل أنواع الخوف، لأنه يُحرِّض الناس على العيش في رهاب دائم، وعلى الكراهية. غير أنّ خوفهم لا يلبث أن يهدأ لاقتناعهم برسوخهم في هذه الأرض منذ مئات السنين، وتعلُّقهم بها. أتحسّر لأنهم يتبنون، وغيرهم، خطابًا مناضلاً يُحوِّلهم على مرّ السنين والنضالات إلى مواطنين واثقين بدولتهم، بالحدود الدنيا. أتعاطف معم حين يشتكون من نقص فادح بالتنمية ولكن أُذكِّر، من أستطيع تذكيره، بأنهم ليسوا وحدهم ضحايا هذا النظام التمييزي العنصري، وأنّ حرمانهم عابر للطوائف، مع بعض التفاوتات.
هذا ما أعلنتُه شفهيًّا للباحث السويسري في لقائنا الأول، خاتمة كلامي بأني لا أملك الوقت الكافي لمعالجة سؤاله، لأني منهمكة بموضوعات أخرى، فأجاب بأن أكتفي بما قلته شفهيًّا. وحتى تاريخ تحرير هذا المقال، لم أستطع الوفاء بوعدي المؤجَّل، وخطر لي في هذه الآونة بالذات توثيق ما قلته له، ربّما لأنّ الكتابة في موضوعات معيّنة تخضع لبواعث غامضة.
السفير