بكر صدقيصفحات سورية

هل التقسيم هو الخطة (ب) في جعبة نظام الأسد؟

بكر صدقي
انتشر مؤخراً مقطع فيديو يصوِّر تعذيب المدعو أكثم عباس واستجوابه المفترض من قبل الجيش السوري الحر. وقد اشتهر هذا الشخص سابقاً بعبارته الشهيرة “بدكن حرية؟! وهاي منشان الحرية!” (أتريدون الحرية؟! وهذه من أجل الحرية!) وهو يضرب أناساً عزَّلاً مقيدي الأيدي وينكل بهم على مرأى الكاميرات. وربما يفوقه شهرةً المدعو “علي عباس” الذي ظهر في مقطع فيديو آخر يصور دوس شبيحة مسلحين على رؤوس سكان قرية البيضا قرب مدينة بانياس، الممددين على الأرض في ساحة القرية، مقيدي الأيدي خلف ظهورهم. قيل إن علي عباس وقع بدوره أسيراً في يد المنشقين عن الجيش السوري، أي الجيش السوري الحر.
وسواء كان خبر وقوعهما في أيدي الجيش الحر صحيحاً أم ملفقاً، قام فيديو تعذيب أكثم عباس بخاصة، وخبر أسر الرجلين بعامة، بإيصال الرسالة التالية إلى الأوساط المعنية: إذا وقعتم في يد الثوار ستنالون هذا العقاب الشديد، بمثل ما كنتم تفعلون بالناس. من المحتمل، بالنظر إلى سوابق في هذا الإطار، أن يكون الخبر والفيديو من تلفيق أجهزة النظام، الغاية منه الحفاظ على تماسك الجهاز القمعي بعدما كثرت الانشقاقات منه في الآونة الأخيرة، وضمان ولاء الشبيحة المطلق للعائلة الحاكمة، بعدما ظهرت أعراض تململ في بعض الأوساط المؤيدة.
قبل ذلك سربت أجهزة النظام مقاطع فيديو إلى الإعلام المرئي، تصور تدنيس جنود أو شبيحة مسلحين لمساجد في بعض المدن والبلدات، وأخرى تصور التنكيل بأسرى وقعوا بين أيديهم وإرغامهم على إعلان عبوديتهم لبشار. وفي جميع مقاطع الفيديو هذه يتكلم عناصر المخابرات أو الشبيحة بلهجة علوية واضحة. الغاية من تسريب هذه المقاطع هي دائماً توريط أبناء هذه الطائفة في موقف لا رجوع عنه، إضافة إلى تأجيج مشاعر العداء الطائفي بين المكونات الوطنية بطريقة يصعب ترميمها.
كان من المحتمل عدُّ كلام النائب السابق المنشق عبد الحليم خدام عن موضوع “الدولة العلوية” مجرد تكهنات رجل نبذه نظام كان خدمه عقوداً طويلة. لكن رئيس المجموعة العائلية الحاكمة نفسه لفظ الكلمة أخيراً، فقال إن “المؤامرة تستهدف تقسيم سوريا”. وما لبث أحد أبواقه اللبنانيين، وئام وهاب، أن ترجم كلام ولي نعمته على شاشة التلفزيون السوري، فقال إن الأسد لن يستسلم، وسوف يحتمي بالجبل لمواصلة معركته ضد المؤامرة.
الواقع أن سلوك النظام في مواجهة ثورة الشعب السوري نمَّ، منذ بدايتها، عن خطة وحيدة هي القمع وهدف وحيد هو تحطيم إرادة الشعب بالقوة العارية، للبقاء في الحكم إلى الأبد وبالطريقة القديمة نفسها. أما تقسيم سوريا لحكم جزء منها، فلم يكن أمراً وارداً بسبب تعقيدات التركيبة الاجتماعية السورية وتوزعها الجغرافي المتداخل، واشتراط إرادة دولية غائبة لمشروع من هذا القبيل. لكن تضافر عوامل عدة، إضافة إلى الكلام الصريح الذي أطلقه الأسد مؤخراً، جعل التفكير بهذا الاحتمال مشروعاً.
هناك أولاً استعصاء الوضع على معادلة باتت ثابتة منذ أشهر، أعني عجز النظام عن القضاء على الثورة، وعجز الثورة عن إسقاط النظام. فإذا كان النظام يملك السلاح، فالشعب يملك إرادة القوة، ولا يبدو في وارد التوقف في منتصف الطريق قبل إسقاط النظام، مهما غلت التضحيات. ولا يمكن لأي نظام الاستمرار في قتل الشعب بلا نهاية، ولا بد من مخرج يعيد الاستقرار. النظام الذي لا يملك إرادة إصلاح نفسه ولا القدرة على ذلك، وفشل بالمقابل في إخماد نار الثورة ضده، أحرق عملياً جميع الجسور، ولم يبق له سوى الرحيل الذي يرفضه.
ثانياً، تمكن النظام من توريط قسم كبير من أبناء المذهب العلوي في مواجهة بقية الشعب، عن طريق تسليح قرى وأحياء بكاملها في بعض المدن وتجنيد الشبان في ميليشيات الشبيحة التي لعبت دوراً بارزاً في قمع السكان والتنكيل بهم. وقامت أجهزة النظام بتصوير عمليات قذرة كتعذيب المعتقلين أو السكان أو انتهاك حرمة دور العبادة أو السطو على البيوت والمحلات التجارية، وسربت مقاطع الفيديو لوسائل الإعلام المؤثرة كقناتي الجزيرة والعربية وغيرهما، بهدف ربط مصيرهم بمصير الأسرة الحاكمة.
ثالثاً، المجتمع الدولي، بما فيه العربي، ما زال يقف عاجزاً عن فعل أي شيء مع نظام يرفض السياسة ويستبدلها بالعنف المجنون العبثي. أتحدث عن عجز، غير أن الأمر بالنسبة للدول الكبرى الفاعلة في السياسة الدولية، يصل إلى درجة التواطؤ مع النظام. صحيح أن جميع الدول باتت على قناعة بأن النظام ساقط ولم يعد قادراً على استعادة زمام الحكم، وسقطت شرعيته في نظرها، لكن أحداً لا يبدو مستعداً لفعل أي شيء للتعجيل في سقوطه واختصار آلام السوريين وحقن دمائهم. من المرجح أن القوى الدولية الفاعلة ستترك الوضع يزداد تعفناً وصولاً إلى عتبة الحرب الأهلية.
الواقع أن الحرب الأهلية مشتعلة في سوريا عملياً منذ بداية الثورة السلمية في منتصف آذار 2011. فإطلاق النار على المتظاهرين السلميين ومواكب تشييع الشهداء، وقتل المعتقلين تحت التعذيب بدم بارد وتقطيع أوصالهم قبل وبعد القتل، وإقحام الجيش بأسلحته الثقيلة في قمع المدن والبلدات، والتحريض على الكراهية والعنف الذي تمارسه أجهزة إعلام النظام، وإفلات قطعان الشبيحة على السكان، وتسليح الفئات الموالية.. كل ذلك عناصر في حرب أهلية جارية على قدم وساق. ويدفع النظام باتجاه استجرار ردود فعل عنيفة ضد الفئات المذكورة، ويقوم بافتعالها كلما تسنى له ذلك. لكن الشائع في الرأي العام هو أن المقصود بالحرب الأهلية الطائفية يقتصر على ما يمكن أن تتعرض له الأقليات من عنف بعد سقوط النظام. وهو لا يعدو كونه افتراضاً نظرياً إلى الآن، مقابل الحرب الأهلية القائمة في الواقع.
نشرت جريدة النهار اللبنانية، في فترة مبكرة من الثورة السورية، وثيقةً قالت إنها تعود إلى العام 1926، يطالب فيها بعض وجهاء الطائفة العلوية سلطة الانتداب الفرنسي بإقامة دولة علوية مستقلة في جبال الساحل. وحملت الوثيقة، بين توقيعات أخرى، توقيع سليمان الأسد، جد الرئيس الحالي لأبيه. لا نعرف الجهة التي تقف وراء نشر هذه الوثيقة في هذا التوقيت، ولا الغايات المضمرة من وراء نشرها. ولكن بعد تهديد الأسد بتقسيم سوريا، أصبح من الممكن التساؤل: هل تقسيم سوريا والشروع في إقامة دولة للعلويين في جبال الساحل السوري هي الخطة (ب) بعد فشل العائلة الحاكمة في بسط سيطرتها على كامل الأراضي السورية؟
في هذا السياق علينا الإشارة إلى حزب العمال الكردستاني الذي يسيطر اليوم على بعض المناطق الشمالية من البلاد حيث الكثافة السكانية الكردية. وقد عقد هذا الحزب المسلح الذي يقاتل الجيش التركي منذ ثمانينات القرن الماضي، صفقةً سياسية مع أجهزة العائلة الحاكمة، يقوم بموجبها بقمع الحركة الثورية ضدها، مقابل التمتع بالسلطة الفعلية في تلك المناطق. وتشمل هذه السلطة، إضافة إلى جانبها الأمني من إقامة حواجز للتفتيش على الطرق وقتل المعارضين واعتقالهم وتفريق المظاهرات، انتخاب مجلس شعب ومجالس محلية ومراكز ثقافية لتعليم اللغة الكردية. ويرفع الحزب الكردستاني شعار الإدارة الذاتية للمناطق الكردية ويقوم بتطبيقها عملياً في ظل فراغ السلطة القائم.
بالمقابل، تم تشكيل مجلس وطني كردي من عشرة أحزاب سياسية تقليدية كردية ومستقلين، أعلن أن هدفه “حق تقرير المصير للشعب الكردي في سوريا ضمن وحدة أراضي البلاد” ويطالب بـتطبيق نظام “اللامركزية السياسية” بعد سقوط النظام.
ترى هل تخطط أسرة الأسد لحكم المنطقة الساحلية في إطار فيدرالي يعزل شمال البلاد لصالح كيان فيدرالي آخر للأكراد؟ وهذا مما قد يستهوي بعض الدوائر الأنكلو ساكسونية في الغرب. فمن اللافت أن وزارة الخارجية البريطانية التي لم تعترف بعد بالمجلس الوطني السوري – الإطار الرئيسي للمعارضة السورية – قد اعترفت بالمجلس الوطني الكردي في سوريا ممثلاً برئيسه حكيم بشار.
طبعاً دون هذا الخيار صعوبات كبرى أهمها التداخل الديموغرافي في الشريط الساحلي وفي العاصمة دمشق. من المحتمل أن يكون احتلال حي بابا عمرو في حمص بعد صموده طوال أشهر بيد الثوار، بداية تطهير مذهبي يخلط المعادلات الديموغرافية القارة لصالح فرز سكاني يخدم مشروع الدويلة العلوية المفترضة.
يبقى هذا المشروع إلى اليوم مجرد تكهن وتحليل. لكن كونه كذلك لا ينفي أننا أصبحنا في سوريا، بسبب إجرام العائلة الحاكمة وإهمال المجتمع الدولي، أمام ما يمكن تسميته “المسألة العلوية” على غرار المسألة اليهودية.
لا ريب في ان أفضل خدمة تقدم إلى إسرائيل القلقة من موجة ثورات الربيع العربي، إنما هي افتعال “مسألة علوية” في سوريا (ولبنان؟).
وعناصر هذه “المسألة” باتت شبه مكتملة. كيف يمكن لأبناء هذا المذهب أن يتعايشوا مع بقية السكان وكأن شيئاً لم يكن؟ بالمقابل هل يمكن محاكمة عشرات آلاف الشبيحة من هذا المذهب من غير أن يترك ذلك أثراً على التعايش بين مكونات المجتمع السوري؟
هل يمكن قطع الطريق على هذا المسار؟
ربما.. إذا انتفضت الكتلة الرئيسية لأبناء المذهب العلوي ضد العائلة الحاكمة، ولو في اللحظة الأخيرة، وسرَّعت بذلك في الإطاحة بها. أو إذا توافقت الدول الكبرى على حل سياسي جوهره نقل السلطة من العائلة الحاكمة إلى سلطة وطنية مؤقتة مهمتها إدارة المرحلة الانتقالية إلى نظام ديموقراطي تعددي. ولكن يجب القبول بأن الهامش الزمني يضيق باطراد.
http://www.alsabahsyria.com/index.php/opinion/207-2012-03-31-18-58-29

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى