هل الثورة فعل يمكن التراجع عنه؟: عمر قدور
عمر قدور
تكاثرت في الأيام الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي مشاعر الإحباط بين مؤيدي الثورة السورية؛ فعلى الأرض لم تتوقف قوات النظام في الأسابيع الأخيرة عن شن أعنف الهجمات على المناطق المحررة والمحاصرة، في حمص ودمشق وريفها على نحو خاص، وعاد طيران النظام ليقصف مكذّباً وصول أسلحة نوعية للثوار. أما على الصعيد السياسي الخارجي فمن الواضح أن الملف السوري نُحّي عن طليعة اهتمامات القوى الكبرى، باستثناء حلفاء النظام الذين لم يتوقف دعمهم أبداً. يُضاف إلى ذلك الانتهاكات التي راحت ترتكبها جماعات متطرفة تكفيرية في المناطق المحررة وهيئاتها الشرعية، ومنها اعتداءات تعدت المدنيين مؤخراً لتطال قيادات في الجيش الحر، ما يُنذر بمواجهات قد تكون قاسية جداً بين الطرفين.
بالتزامن مع حملته العسكرية الشرسة لجأ النظام إلى أسلوب التجويع، وهذه المرة لم يقتصر الأمر على منع الأغذية عن المناطق المحاصرة، بل تجلى في تخليه التام عن واجباته الاقتصادية، ومساهمته في رفع نسبة التضخم بشكل سريع جداً من خلال الزيادة الوهمية في الأجور وبالتالي الزيادة الضخمة في معدل انهيار الليرة السورية. أي أن شرائح واسعة من سكان المناطق التي يسيطر عليها النظام هبط مستواها المعيشي فجأة إلى ما دون خط الفقر، وصار الحديث عن المجاعة واقعاً يهدد النسبة الأكبر من عموم السوريين.
كان لا بد أن تنعكس المعطيات السابقة شعوراً باليأس، ولأن إلقاء اللوم على العالم الذي خذل السوريين بات نغمة مستهلكة فقد اتجهت نسبة لا بأس بها إلى لوم الذات وتقريعها، فيما لم تعد تخفى تلك الأصوات التي رأت الفرصة سانحة لتنقض على الثورة من أساسها باعتبارها تسببت بالتردي الشامل الذي يصيب البلاد. الأصوات الأخيرة ليست موالية بالضرورة، فمنها مَن هو غير راضٍ عن النظام ومعادٍ للثورة أيضاً، ومنها من ينسب نفسه إلى فكرة الثورة معفياً إياها من تجسدها على الأرض، ولا يُستبعد في الواقع السوري أن يكون منها أيضاً من تسللوا إلى صفوف الثورة بمهمة أمنية من مخابرات النظام. لكن تعدد الدوافع وطبيعتها لا يعفي الثورة من النقد أولاً، ولا يعفينا من مناقشتها ثانياً.
ستكون خيبة الأمل مفهومة أكثر من أولئك الذين انخرطوا في مشروع الثورة، وأُحبطوا من الحصيلة البائسة لها حتى الآن. أما أن تأتي خيبة الأمل من الذين تركوا مسافة بينهم وبين الثورة، وتحفظوا عليها منذ البداية، فهذا لا يجرّدهم من أحقيتهم بالنقد كسوريين بصرف النظر عن انحيازهم السياسي، وإنما يضعهم في موقع المسؤولية من حيث يحاولون إبراء أنفسهم منها. نعم، كان للثورة أن تصبح غير ما وصلت إليه لو أن الكثرة من المتثاقفين عليها شاركت حقاً الناس البسطاء في صناعة خياراتها، وأيضاً لو أن تلك الفئة تواضعت قليلاً لتمتحن خياراتها على الأرض بدل انتظار فشل الآخرين من وجهة نظرها. هذا المدخل ضروري لفهم أن لا أحد بوسعه أن يملي الخيارات المحببة إليه على الأرض، إن لم يكن مشاركاً فعلاً في صياغتها وضمن روح تشاركية حقيقية.
ما حدث قد حدث، وهو ليس حتمية وليس أفضل الخيارات، وقد نختلف حول أكثرها سوءاً. غير أن تكرار الأخطاء ذاتها يؤدي إلى نتائج متشابهة، وفي الطليعة منها النأي عن الثورة بذريعة الاختلاف في الرأي، وعدم محاولة إغنائها من داخلها بالتعددية المفترضة. يخطئ من يتمنى أو يعتقد أن الثورة فعل يمكن التراجع عنه كأي خيار آخر، بخاصة بعد الثمن الباهظ الذي دفعه السوريون من دمائهم وعيشهم؛ الأمر هنا لا يتعلق بالتفاؤل أو التشاؤم، مع مشروعيتهما الشخصية، يتعلق أساساً بحركة الواقع التي لا يمكن الوصاية عليها عن بعد. علينا ألا نتجاهل هنا النظام الذي أصرّ منذ البداية على الحل الأمني، ولا يزال مستمراً به من دون أي مشروع سياسي، فذلك يجعل المواجهة ذات طابع راديكالي مفتوح، أي أن الثورة قد تخسر المعركة كلها بفعل الوحشية المفرطة للنظام، وبفعل أخطائها أيضاً، لكنها لن تتراجع إذا خسرت معركة هنا أو هناك.
ما هو عقلاني ينبغي أن يكون بالضرورة واقعياً، لا مبنياً على الانفعالات والتمنيات الخاصة، والواقع يقول أيضاً إن استمرارية الثورة رهن بمرونتها وقدرتها على تصويب أخطائها، أما خائبو الرجاء الذين ينتظرون فعل الندامة فهم ربما يتمثّلون تلك الأهزوجة الساخرة التي نظمها النشطاء على وزن الأهزوجة الشهيرة للقاشوش. تقول الأهزوجة: “يا بشار ويا أخونا.. أهل درعا ورطونا.. نحنا منرحل يا بشار”. ولكن لنلاحظ أن الأهزوجة ذاتها تنص على رحيل أحد الطرفين لا بقائهما معاً.
http://www.rozana.fm/ar/content/%D9%87%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D9%81%D8%B9%D9%84-%D9%8A%D9%85%D9%83%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AC%D8%B9-%D8%B9%D9%86%D9%87%D8%9F