هل الجامعة العربيّة قادرة على إنقاذ سورية؟
يأتي قرار جامعة الدول العربية في الرباط (16/11/2011) بإعطاء مهلة ثلاثة أيّام للنظام السوري لتوقيع بروتوكول خاصّ بحماية المدنيّين حتى يتسنّى إرسال بعثة المراقبين العرب إلى سورية، في أعقاب قرار آخر لا يقلّ أهمية (12/11/2011) يتصل بتجميد مشاركة الوفود السوريّة في الجامعة إلى حين امتثال النظام للمطالب المستعجلة التي هي: إيقاف القمع والقتل في التّعامل مع المتظاهرين.
والحقيقة أنّ القرارين يمثلان بحدّ ذاتهما خطوة مهمّة في العمل العربيّ المشترك، الذي لم يكن قادرا على التعامل مع الأزمة السوريّة بطريقة مجدية. وهناك عدة أسباب حالت دون أن تحدث الجامعة تأثيرا فوريّا، منها أنّ هياكل الجامعة لا تحتوي آليّة لإدارة الأزمات المحلية. فقد عالجت الجامعة العربية الحروب ، وكانت لها مساهماتها في هذا المجال. وعلى الرّغم من أنها أثارت من النقد والاعتراض على الصعيدين الشعبيّ والإعلامي أكثر ممّا أثارت من التأييد، فينبغي الاعتراف أنّها سجّلت في كثيرٍ من الأحيان مواقف مشرفة إلى جانب الحقّ العربيّ. والأزمات المحلية التي عالجتها الجامعة عبر تاريخها من نوع الحرب الأهليّة في لبنان مثلا، كانت تتعدّى “المحلّية”، ومن ثمّ، فقد لعبت الجامعة دورها كمؤسّسة دبلوماسيّة عربيّة عريقة، لاحتواء هذا النّوع من النزاعات اتّقاء لتدويلها. وعلى الرغم من أنّ المرء لا يمكن أن يقارن بين ما يجري في سورية اليوم وما جرى في لبنان في السّبعينيّات من القرن الماضي، فإن هناك مخاوف معقولة تمامًا من احتمال توسّع النزاع السوريّ وانفجار المجتمع بمكوّناته المختلفة وعدم قدرة النّخبة على لملمة أطرافه واتّساع الرِّقع على الرّاقع. وبسبب أهمية سورية الإستراتيجيّة، وكونها من دول المواجهة مع إسرائيل، وكون أراضيها (الجولان) لا تزال محتلة إلى هذا الوقت من قبل إسرائيل وبدعمٍ من الولايات المتحدة، ينبغي أخذ جميع هذه الأبعاد في الحساب في أيّ تحليل للوضع.
سبق أن خطَت الجامعة العربية خطواتٍ شبيهة تجاه مصر بعد توقيع اتّفاق كامب ديفيد، كما خطَت خطوات أكثر خطورة ضدّ النظام في ليبيا. وهو أمر يتجاوز صلاحيّاتها وأعرافها. ولكن علينا أن نذكر أنه في كافة الحالات التي اتّخذت فيها هذه المؤسسة الضعيفة سياسيّا خطّةً كهذه، كان ذلك بتأثيرٍ قويّ من الرّأي العامّ العربيّ، يصحّ ذلك في حالة توقيع مصر معاهدة سلام مع إسرائيل ويصحّ ذلك أيضا في حالتيْ ليبيا وسورية. ومع أنه ليس في يدي الجامعة آلياتٌ حقيقيّة ورغم كونها كيانا معنويًّا، فلا يجوز أن ننسى أهمية القرار العربيّ معنويا للشعوب، وأيضا في تقويض الشرعية الدولية للأنظمة. هذا طبعا في حالة وجود إرادة دولية تبحث عن مبرّر. وفي حالة مصر في عهد كامب ديفيد كان الموقف الدوليّ معاكسًا وداعمًا للنظام المصري ضدّ القرار العربيّ طبعا.
موقف الجامعة
ينبني موقف الجامعة العربية على مسألةٍ مبدئيّة ( بالنسبة إلى بعض الدول العربية وأمانة الجامعة على الأقل)، وهي: عدم إعطاء القوى الأجنبية فرصة للتدخّل في سورية، لأنّ تدخلاتها عادة ما لا تكون منزّهة عن المطامع. ويتأسّس هذا الموقف كذلك على خلفيةٍ تضع في اعتبارها أنّ سورية كدولة – وليس كنظام – هي جزء لا يتجزّأ من الوطن العربي يعاني إلى حدّ اليوم من احتلال جزءٍ من أراضيه بالقوّة من طرف إسرائيل. وبالنسبة إلى إسرائيل والولايات المتحدة، يعني سياق تغيير النظام السوري اليوم خصوصًا فرصة التعامل مع أشخاصٍ قد يكون التحكم فيهم وتسييرهم بالاتجاه “المطلوب” أسهل من غيرهم. والجامعة العربية تعي تمامًا أنّ الرهان على تغيير النظام في سورية يتجاوز الإطار المحلّي والمطلب الديمقراطي الشّعبيّ (وهو مطلبٌ لا خلافَ على مشروعيّته) إلى تغيير الأساس ربّما الذي يقوم عليه النّظام الإقليميّ برمّته. وتدرك الجامعة أيضا أنّ الولايات المتّحدة وإسرائيل قادرتان على ركوب “موجة” المطالب الشعبية واستغلال الموقف بتقديم “المعونة” والدّعم لمن يحتاجها. لذلك سعى الوزراء العرب إلى تجنّب الأسوأ، فتعاطوا مع النّظام السوريّ بطريقة لا تغلق الباب أمامه ولا تفتحه أمام التدخّل الخارجيّ كما يتصوّرون. وقد كانت معالجة الجامعة للأزمة السوريّة تدريجيّة. ولكن سورية تعاملت مع المبادرة العربيّة كأنّها مؤامرة تمهّد للتدخل الأجنبيّ كما في حالة ليبيا، وهي في تعاملها هذا عملت على إفشال المبادرة فبدا وكأنّها تتواطأ مع “المؤامرة”، إذا صحّ وجودها، وتقرب التدخّل الأجنبيّ.
تأثّر الموقف العربيّ تجاه الثورة السوريّة في الأشهر الأولى من انطلاقاتها بمجموعة من المحدّدات الخاصّة بتوجّهات كلّ دولة، لذلك لم يلاحَظ تنسيقٌ عربيّ مشترك. بما في ذلك الزيارة التي قام بها الأمين العام للجامعة نبيل العربي في 15 تموز/ أيلول 2011 حيث طالب الرئيس بشّار الأسد بإيقاف الحلّ الأمنيّ لمواجهة الاحتجاجات والبدء في إصلاحات سياسية شاملة. ونتيجة للتّعاطي السلبيّ مع جهود الأمانة العامّة، بدأت مجموعة من المواقف العربيّة المتقدّمة تظهر والتي كان لها أثر في تبنّي الجامعة لقرار تعليق العضويّة ، وأبرزها:
دعوات الأمانة العامّة في 7 آب / أغسطس 2011 من أجل بدء مرحلة الإصلاحات السياسيّة وإيقاف القتل تجنّبا لأيّ تدخّلاتٍ أجنبيّة في سورية.
مطالبة السعودية وقطر النّظام السوري بوقف القتل، وسحب عدد من الدول الخليجيّة سفراءَها من دمشق إضافة إلى تونس.
رسالة مجلس التعاون الخليجيّ في 11 أيلول/ سبتمبر التي تطالب النّظام بالوقف الفوريّ للنهج القمعيّ الذي سلكه.
اجتماع وزراء الخارجية العرب بتاريخ 13 أيلول/ سبتمبر 2011، والإعلان عن المبادرة العربية الأولى التي تضمّنت سحب الجيش من المدن ووقف العنف وإجراء حوار مع المعارضة السورية.
الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب بتاريخ 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2011 وإعطاء دمشق مهلة 15 يومًا لتنفيذ بنود المبادرة العربية. ومن ثمّ تشكيل لجنة وزارية عربيّة برئاسة قطر زارت دمشق، وقبول دمشق المبادرة العربية بعد الاجتماع الذي عقد للّجنة الوزارية مع وزير الخارجية السوريّ في الدوحة في 31 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2011 .
قرَّر مجلس جامعة الدول العربية خلال الاجتماع الاستثنائيّ لمجلس وزراء الخارجية العرب بتاريخ 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 تجميد مشاركة جميع الوفود السوريّة في المجالس والهيئات التابعة للجامعة اعتبارًا من 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، ودعا الدول العربية إلى سحب سفرائها من دمشق، وفرض عقوبات سياسيّة واقتصادية على الحكومة السورية. وقد اتُّخذ القرار بموافقة 18 دولة في حين اعترضت دولتان هما لبنان واليمن وامتنع العراق عن التّصويت.
في اجتماع وزراء خارجيّة الدول العربية في الرباط يوم 16/11/2011، تقرّر إرسال بعثة مراقبة إلى سورية، ومنحت حكومتها مهلة ثلاثة أيام لتوقيع بروتوكول خاصّ بحماية المدنيّين ووقف العنف، والموافقة على إرسال بعثة المراقبين العرب المكوّنة من 30 إلى 50 مراقبًا عسكريًّا وفنّيا، قبل البدء في بحث فرض عقوباتٍ اقتصاديّة.
ولم يكن من الغريب أن تثير القرارات الأخيرة إشكالات قانونيّة.
البعد القانونيّ لقرار الجامعة العربيّة المتعلّق بتعليق العضويّة
شكّل قرار الجامعة العربية تطوّرا هامًّا في مسار الثّورة السورية، لجهة تبنِّي موقف عربيّ وبأغلبيّة كبيرة للتعاطي مع تطورات الملفّ السوريّ.
وقد وصف المندوب السوريّ في الجامعة العربية يوسف أحمد القرار العربي بأنّه قرار “غير قانونيّ” ومخالف لميثاق الجامعة ونظامها الداخليّ، من قبيل أنّ هذا التحرّك، الذي عارضه مندوبان في الاجتماع الوزاريّ للجامعة في القاهرة، لا يجوز اتّخاذه إلّا بالإجماع في قمّة للزّعماء العرب.
يشار إلى أنّ ميثاق جامعة الدول العربية لا يحتوي على إجراءٍ محدّد تحت مسمّى (تعليق أو تجميد العضويّة)، لكنّه نصّ على الطّرد أو الفصل في المادّة 18 منه، التي تقول إنّ ” لمجلس الجامعة أن يعتبر أيّ دولة لا تقوم بواجبات هذا الميثاق منفصلة عن الجامعة، وذلك بقرار يصدره بإجماع الدول عدا الدولة المشار إليها”. وبالتالي، فإنّ قرار الجامعة الأخير كان قرارا سياسيًّا لا يخالف بندًا واضحًا في نظام الجامعة ولا يرتكز إلى بندٍ واضح.
وعلى الرغم من عدم احتواء ميثاق الجامعة العربيّة لبند صريح تجاه إجراء مماثل إلّا أنّ العمل العربيّ عرف أنواعا متعدّدة من إجراءات التّعليق والتّجميد في حالة وجود رأيٍ عامّ عربيّ جارف يطالب بذلك ويجعل الجامعة ترتقي ككيان فوق مجموع أعضائها. فقد تمّ تعليق عضويّة مصر عام 1979، إثر زيارة الرئيس الراحل أنور السّادات إلى إسرائيل وتوقيع معاهدة السّلام معها. كما جمّدت الجامعة عضويّة العراق عام 1990 عند احتلاله للكويت . لكن الإجراء الأبرز في مسار عمل الجامعة العربيّة تمثّل في تجميد عضويّة ليبيا خلال ثورة 17 فبراير وإزالة التجميد عقب انتصار الثورة والاعتراف بالمجلس الوطني الليبيّ الانتقالي ممثّلا شرعيًّا ووحيدًا للشّعب الليبيّ.
وبالتالي، فإنّ قرار الجامعة تجاه سورية لا ينضوي تحت إطار الفصل أو التّجميد، و إنّما هو قرار شَرطيّ بحرمان الوفود السوريّة حقّ المشاركة في هيئات الجامعة حتّى تنفيذ بنود المبادرة العربيّة التي وافقت عليها الحكومة السوريّة. فالقرار لم يحاك حتّى الآن التجربة الليبية بتجميد العضويّة وإحالة الملفّ إلى مجلس الأمن. وعلى الرّغم من أنّ قرار يوم 12/11 أثار إمكانية اللجوء إلى الأمم المتحدة ( وليس مجلس الأمن) في حالة عدم استجابة الحكومة السوريّة للمطالب، فإنّ القرار التالي (16/11) عاد وأعطى النّظام فرصة أخرى للتّراجع وتطبيق ما طُلب منه، ودون ذلك سيعرّض نفسه لعقوباتٍ اقتصاديّة وسياسية.
قرارات الجامعة في وضعها الإقليميّ
جاءت قرارات الجامعة العربية كأوّل موقف عربيّ جماعيّ رسميّ يناقض روايات النّظام السوريّ بأنّ سورية تجابه مؤامرة دولية كبرى وأنّ عملياته ماهي إلّا عمليات أمنيّة ضدّ مسلّحين وليست لقمع ثورة شعبية. فمن الناحية العملية لا شكّ أنّ المبادرة العربية تدين النّظام السوريّ و تصرّفاته من حيث المبدأ، ولا تصدّق روايته للأحداث.
وتشكّل المبادرة، من جهة أخرى، موقفا عربيًّا جدّيا تبنّته الأغلبيّة ولم يسبق له مثيل تجاه السلطة السوريّة. ومع ذلك، فمصر قالت إنّها لن تغلق سفارتها في دمشق ولن تسحب سفيرها حتّى في حال تعليق عضويّة سورية في الجامعة، انطلاقًا من اعتقادها بضرورة الإبقاء على جسرٍ للتواصل حتى في أحلك الظروف. وتعتقد مصر أنّ دور الوساطة في هذه الحال يعود إليها، من حيث أنها الدولة المضيفة للجامعة العربية. ورفض لبنان القرار الداعي إلى تعليق العضوية لحرصه على “حماية الاستقرار الداخليّ والسلم الأهليّ” بحسب تصريح رئيس الحكومة نجيب ميقاتي. وليس من الواضح ما إذا كان المقصود بذلك هو المجتمع السوريّ أم المجتمع اللبنانيّ المنقسم أيضا حول الأزمة في سورية. لكن من الملاحظ أنّ حزب الله في لبنان قد وضع آلته العسكرية في أعلى درجات الاستنفار “لمواجهة تهديد أيّ هجوم عسكري على سورية أو إيران”.
ولم يعارض العراق ولم يؤيّد لاعتقاد وزير خارجيّته أنّ بلاده التي تمرّ بوضعٍ دقيق أيضا ستتأثّر بأيّ موقف يتّخذه من الأزمة في سورية.
ومن ناحية الجيران غير العرب، نجد موقف إيران الحليف القديم للنظام السوريّ مختلفا عن الموقف التركيّ. فطهران متضايقة إلى أبعد حدّ ممّا يجري في سورية، ولا تزال تكرّر أنه “ينبغي ترك الشأن السوريّ للسوريين” وأنها ترفض التدخل الأجنبيّ. وتتّهم طهران الولايات المتحدة وبلدانا غربية أخرى بمساندة المعارضة السورية بتقديم الأسلحة إليها، وهو اتّهام وجّهته أيضا دمشق لواشنطن وحلفائها. أمّا تركيا، فقد هاجمت النظام السوريّ متّهمةً الأسد بأنه “عديم المصداقية لعدم التزامه بتطبيق الاتفاقية التي أبرمها مع الجامعة العربيّة بشأن وقف أعمال العنف والقتل ضدّ المتظاهرين.” و قد وجّهت تحذيرًا شديدَ اللهجة إلى سورية وقال وزير خارجيتها داود أوغلو في افتتاح المنتدى العربي التركيّ: ” إنّ النظام السوريّ سيدفع غاليًا جدا ثمن ما فعل”.
وعلى الرّغم من أنّ همّ إسرائيل الأساسيّ الآن هو إيران فلا شكّ أنّها تربط بين الأزمة في سورية والوضع في إيران. والبعض يرون أنّ إضعاف النظام السوريّ يلهيه عن تقديم المعونة في حال فكّرت إسرائيل في القيام بضربة ضد إيران. إضافةً إلى ذلك، ستكون إسرائيل أكثر ارتياحا بتوقّف الدعم السوريّ لحزب الله في لبنان، وأكثر ارتياحا إذا خلت سورية من جميع الفصائل الفلسطينية الملتزمة بخطٍّ متشدّد في المقاومة، وأكثر ارتياحا – وسرورا – إذا فشلت الجامعة العربيّة في احتواء الأزمة ومعالجتها كقضيّة عربيّة داخلية وأفضى ذلك إلى فتْح باب المجهول مع التدويل والعسكرة.
تتمخّض عن هذه المعطيات جملةٌ من النّتائج يمكن تلخيصها كما يلي:
عزل النّظام في الدائرة الجيوسياسيّة العربية وتضييق الخناق عليه، إضافة إلى تحفيز الضّغوط الإقليميّة والدولية، خاصّة بعد المواقف التركية شديدة اللهجة والإجراءات التي أعلنتها اقتصاديًّا بالتراجع عن مشاريع التّنقيب عن النّفط في سورية، ودراسة إمكانية قطع إمدادات الكهرباء التي تزوّد بها سورية، إضافةً إلى توسيع قائمة العقوبات ضدّ شخصيات في الحكومة السورية من قبل الاتحاد الأوروبيّ.
فتح المجال لإنشاء آليّة لتطبيق قرارات الجامعة بضرورة وقف العنف مع وجود تهديد بإحالة الملفّ السوريّ إلى المؤسسات الدولية.
إبقاء باب التّفاوض مفتوحا في حال تراجع النظام السوري عن عملياته القمعيّة والعسكريّة.
الجامعة وموقف النّظام السّوريّ
اتّسم موقف النظام السوريّ من قرار الجامعة العربية بالارتباك بدايةً من خلال رفض السفير يوسف أحمد القرار واعتباره ناجمًا عن مؤامرة عربية موجّهة من أطراف دولية ضدّ سورية. ومن الواضح أنّ حكومة دمشق أدركت تمامًا أنّ قرار الجامعة هو مقدّمة لتفاعلاتٍ إقليمية ودوليّة تفتح الباب لسلسلةٍ من التّدابير ضدّها أقلّها زيادة عزلتها، وأقصاها تدخّلٌ عسكريّ يحسم الأمر نهائيّا. وتمثّل ردّها في مناورةٍ تكتيكيّة للالتفاف على القرار من خلال التظاهر بالقبول به وإعلان الرغبة في تنفيذ بنود المبادرة العربيّة ودعوة الجامعة إلى إرسال مراقبين عرب لزيارة سورية وطلب عقد قمّة طارئة لحلّ الأزمة السورية في الإطار العربيّ. وفي الوقت ذاته استمرّ النظام في ممارسة “دور الضحيّة” ومحاولة إغراق الجامعة بالتفاصيل بغية حثّ بعض الدول العربية على التّراجع عن القرار .
لم ينجح التكتيك الرسميّ السوريّ في زعزعة موقف الجامعة، خاصّة بعد رفض دول مجلس التّعاون الخليجيّ الطلب السوري بعقد قمّة عربية طارئة وانعقاد المؤتمر الوزاريّ في الرباط بمشاركة تركيا حيث صعّد وزير الخارجية التركية أحمد دواد أوغلو من لهجة الخطاب ضدّ النظام السوريّ.
وعلى أساس ما تقدّم، نرى أنّ الوضع في سورية يمكن أن يتطوّر حسب عدّة سيناريوهات ممكنة:
السّيناريو الأوّل: الاستجابة وتحقيق التّغيير الدّيمقراطيّ
نتيجة جدّية الموقف العربيّ وتماسكه والتنسيق مع تركيا وازدياد الضّغوط الدولية قد تستجيب دمشق لضغوطات الجامعة العربية وتعمل على الإسراع في تطبيق المبادرة العربية، ويرى مرجّحو هذا السيناريو خطوات حسن نوايا بدأت فيها كإطلاق سراح 1180 معتقلًا والسّماح لفريق مراقبة عربيّ ودوليّ بالدخول إلى الأراضي السوريّة لتفقّد الأوضاع على الأرض. وبالتالي، قد تبادر إلى سحب الآليّات العسكرية والمظاهر المسلّحة من المدن والسّماح بالتظاهر السلميّ ووقف العنف ضدّ المحتجّين وإعلان الاستعداد للدخول في حوار مع مكوّنات المعارضة السورية وفق الآليّة التي اقترحتها المبادرة العربية، بما يسمح بالوصول إلى تسوية تاريخيّة بين النظام والمعارضة السورية تُجنّب سورية مخاطر التدخّل الخارجيّ والانزلاق في اتّجاهات فرعيّة تنطوي على حوادثَ طائفيّة بدأت تظهر مؤخّرًا.
وعلى الرّغم من نجاعة هذا السيناريو في حال تمّ، إلّا أنه يبدو غير واقعيّ، واحتمالاته تبدو ضعيفة بالنظر إلى اللغة المزدوجة التي ينتهجها النظام السوريّ، فهو من جهة يقدّم عبر وزير الخارجيّة وليد المعلم رسائلَ وتطمينات بشأن سعي النظام السوريّ لإنهاء الأزمة، إلّا أنّ عمليات الجيش السوريّ وقوّات الأمن ضدّ المدنيّين لا تزال مستمرّة وبوتيرة تكون أكثر عنفًا ودمويّة أحيانًا. إضافة إلى رفض جزءٍ كبير من المشاركين في الأعمال الاحتجاجيّة أيّ صيغة توفيقية تقوم على الحوار مع النظام وتسمح باستمراره خاصّة في ظلّ توافر شبه إجماعٍ ما بين المعارضة التقليدية والحراك الثوريّ على تنحّي الرئيس بشّار الأسد عن السّلطة كشرط للدّخول في مسارٍ تفاوضيّ حول المرحلة الانتقاليّة. وبالتالي، فإنّ هذا السيناريو تواجهه العديد من العقبات التي تمنع حصوله. وفي المقابل رفضت السلطة الحاكمة أيّ إصلاحاتٍ جذريّة قبل أن يُرفع شعار إسقاط النظام لأنها تخشى أن يقود أيّ إصلاح إلى فتح الباب لإقصائها عن الحكم.
السّيناريو الثّاني: الرّفض واستمرار المناورة تكتيكيّا من قبل النّظام
وهو سيناريو واقعي إلى حدٍّ كبير نتيجة امتناع الحكومة السوريّة حتّى الآن عن الاستجابة للمبادرة العربية أو تنفيذ قرارات الجامعة، والتمسّك بروايتها بأنّ السّياسة القمعيّة التي تنتهجها موجّهة ضدّ المتمرّدين المسلّحين الذين ينفّذون عمليات مسلّحة ضدّ الجيش وقوى الأمن، وبالتالي، تستمرّ بنفس المنهج معتمدةً على الغطاء الروسيّ بعد أن رفضت موسكو قرارات الجامعة العربيّة، ولا يزال يشكّل عقبةً أمام إدانةٍ دوليّة للنّظام السوريّ في مجلس الأمن، إضافة إلى امتلاك هامش مناورة لامتصاص العزلة المفروضة عبر البوّابة اللبنانيّة والعراقيّة حيث رفضت بغداد عمليًّا قرار الجامعة، إضافةً إلى الدّعم الإيراني.
وبالتالي، فإنّ استمرار الوضع في سورية وفق هذا السّيناريو سيفاقم الأزمة بشكل كبير ويغلق منافذ الحلّ، الأمر الذي يحمل معه تداعياتٍ خطيرة ستؤثّر في انتقال الحراك الثوريّ نتيجة السياسات القمعية إلى حراك مسلّح، بدأت تظهر بوادره، ويترافق مع حالة استقطاب طائفيّ تشهده مناطق عديدة في سورية بين تكوينات عديدة في المجتمع السوريّ. وهذا ما سيشكّل الخطر الأكبر على المجتمع السوريّ خاصّة في ظلّ رغبة النّظام في الدّفع باتّجاه هذا السيناريو على اعتبار أنّ تعاطيه مع الأزمة لايزال يعتمد على فهمٍ يعود إلى ثمانينيات القرن المنصرم إبّان المواجهة بين حركة الإخوان المسلمين والنظام في سورية. إنّه خطر الاقتتال الأهليّ الذي نرى بعض مظاهره في حمص ومنطقة إدلب وترفض بعض أوساط المعارضة الاعتراف بوجوده، لأنّها لا ترى وجود قوى اجتماعية داعمة للنّظام. والشّحن الطائفيّ موجود ولا تتمّ إدانته بشكل قاطع وواضح، بل يتمّ الاكتفاء بإنكار وجوده بتعابير عامّة.
السّيناريو الثّالث: قدرة المعارضة على الحسم بالاستفادة من الضّغوط
ويتجلّى هذا السّيناريو في أن يبديَ النظام السوريّ تعنّتا أكبر في الاستجابة للمطالبات العربية والإقليمية والدولية بوقف استخدام القوّة المفرطة ضدّ المتظاهرين السلميّين. وبالتالي، يمكن زيادة الضغوط والعقوبات العربية والإقليمية والدولية عليه. ويستطيع الحراك الشعبيّ والمعارضة التقليدية التي استطاعت كسب معركة الوقت في صراعها مع النّظام حتّى الآن الحسم لصالحها بالاستفادة من التآكل في بنية النظام وضعف تماسكه، خاصّة مع الوهن الحاصل في القوّات العسكرية المنتشرة في غالبيّة المناطق السورية، وبداية انفضاض عقد التحالف بينه وبين دائرة رجال الأعمال القريبين منه نتيجة تردّي الأوضاع الاقتصادية وحالة الرّكود الاقتصاديّ التي تمخّضت عن الأزمة وتأثير العقوبات التي بدأت تظهر بشكل جليّ من خلال ازدياد تهريب الأموال من سورية وتوطّن العديد من رؤوس الأموال خارج البلد. يضاف إلى كلّ هذا زيادة ملحوظة في عدد عمليات الانشقاق في الجيش السوريّ وتمكُّن المنشقّين من تشكيل فصائلَ تواجه الجيش من خلال حرب عصابات مدعومة من قبل الوسط الشعبيّ، ما يزيد من جسامة الأضرار التي يتعرّض لها النظام يوميا، وبالتالي، نصل إلى وضع يتفكّك فيه التحالف السياسيّ الأمنيّ الاقتصادي ويكون بداية لتفكّك النّظام ما قد يدفع بعض أطرافه وأركانه إلى السّير لانقلاب على حالة الاستعصاء والشّلل التي تحكم الواقع السوري حاليًّا.
ولكن انهيار نظام لا يعني قيام نظام ديمقراطيّ. فهذا السّيناريو أيضًا محاط بمجموعةٍ كبيرة من المخاطر والعقبات أبرزها، عدم قدرة المعارضة السوريّة حتّى اليوم على إنتاج رؤية سياسيّة موحّدة تتجاوز خلافاتها وتتعالى فيها على منطق التّخوين والإقصاء وتستطيع من خلالها بعث رسائل تطمينات لشرائحَ كبيرة من المجتمع السّوري لا تزال متردّدة . وعلينا أن نذكر أنّ جزءًا من هذه المعارضة رفض المبادرة العربيّة وعوّل على التدخّل الدوليّ، وتخلّى عن هذا الخيار عندما فهم من الدول الغربيّة ذاتها أنّ هذا الخيار غير وارد. وهنالك شرائح من المجتمع السوريّ ترى احتمالات حرب أهليّة وترى مخاطر النموذج العراقيّ، وتخشى من انفتاح قسم من المعارضة على فكرة التدخل العسكريّ الخارجيّ الذي ترفضه الغالبيّة الصّامتة من المجتمع السوريّ نتيجة ملامسة تداعياته في العراق القريب. وتضاف لهذه العقبات المخاطر التي ستنجم عن انقسام الجيش السوري وتفكّكه وعدم قدرته على أداء دور مستقبليّ من المحتمل أن يناط به بصفته الضّامن لمنع الحرب الأهلية في حال حصول التغيير بطريقةٍ عنيفة وغير سلميّة. وبالتالي، فإنّ المعارضة السورية مطالبة لتنفيذ هذا السيناريو بتجاوز لغة التّخوين التي وقعت فيها خلال الفترة الأخيرة الماضية، والابتعاد عن العمل لاستنساخ تجارب لا تتلاءم وطبيعة المجتمع السوري المتعدّد أثنيًّا ودينيًّا وطائفيًّا، والدّخول آنيًّا في مشروعٍ جامع يبتعد عن المسمّيات ويقدّم برنامجًا للمرحلة الانتقالية نحو إسقاط النّظام وإقامة الديمقراطية التي بدأت الأطراف العربيّة والإقليميّة تدعمها إذا ما استعصى النّظام السوريّ على الإصلاح.
السّيناريو الرّابع: العسكرة والتّدخّل العسكريّ
على الرغم من أنّ هذا السيناريو مستبعدٌ حاليّا – باعتبار أنّ المبادرة العربية جاءت كخطوة استباقية من قبل الجامعة العربية لتفادي سيناريو تدويل الأزمة وانعطافها إلى مسار التدخّل العسكريّ وفق الطريقة العراقية أو الليبية – فهو لا يزال كامنًا. و لهذا السيناريو مرتكزاته على المدى المتوسط والبعيد، وهو ما بات يُعرف في سورية بسيناريو “الشّيطان”. وأهمّ هذه المرتكزات استمرار النظام في رفضه للحلّ العربيّ ووقف القتل والدخول في عملية تغيير انتقاليّة يترافق مع نزوعٍ لدى بعض الأطراف داخليًّا وخارجيًّا للانتقال بالثورة إلى العسكرة وحمل السّلاح والمطالبة بمناطقَ حدوديّة عازلة تحاكي السيناريو الليبيّ، وتبرير ذلك بفرضيّة العجز عن إسقاط النظام سلميًّا والرغبة في التخلّص من القتل اليوميّ الذي تمارسه أجهزة النظام، والذي قد يتقاطع مع تغيرٍ في المعطيات على المستوى الإقليمي والدولي تدفع بهذا الاتجاه، خاصّة في ظلّ إصرار النظام على انتهاج ” خيار شمشون”. وبالتالي، نكون أمام حالة مشابهة لحالة العراق عام 2003 من خلال ظهور معارضة تستجدي التدخّل الأجنبيّ العسكريّ وتحفزه، أو عسكرة للثورة وإنتاج مناطق “محرّرة” يتركّز فيها المسلّحون للانطلاق في عملياتهم لإسقاط النظام.
ويُعدّ هذا السيناريو الأخطر على سورية وعلى العالم العربيّ، وسيشكل انتكاسة للربيع العربي الذي حصدت أوّل ثماره في تونس بعد انتخابات المجلس التأسيسيّ. وسينطوي على بُعد تقسيم طائفيّ دينيّ وأثنيّ خطير في المجتمع السوريّ، وبالتالي، ستشكّل سورية قاطرة سلبية لتمزيق المشرق العربيّ المتنوّع بدل أن تكون دولة ديمقراطية تشكّل عاملا في التصدّي للطائفية. كما سيتسبّب هذا السيناريو في تحجيم أهمّية سورية ويعزلها عن التأثير إيجابيا في ملفاتٍ أساسية، خاصّة منها الصّراع مع إسرائيل. وستصبح ميدانا تتصارع فيه الإرادات الدولية والإقليمية وفقا لمصالحها، وستنعكس تداعيات ذلك على لبنان ودول عربيّة مجاورة ليصار إلى وضع عربيّ معقّد يشكّل عائقا لعملية التحوّل الديمقراطيّ في الأقطار الأخرى.
ومن ثمّ، فإن مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الجامعة العربية والعمل العربيّ المشترك لإنتاج آليات تمنع حصول هذا السيناريو وتصنع حلولا ضمن الدائرة العربية فقط بعيدا عن أجندات ومصالح الفاعلين الإقليميّين والدوليّين. كما أنّ المعارضة السورية بكافة أطيافها تتحمّل الجزء الأكبر من المسؤولية من خلال دورها السلبيّ آنيّا وعجزها عن إنتاج الرؤية السياسيّة التي تحفز انخراط فئات الشعب بمعظمها وتدفعها لتلمس فوائد ومحاسن التّغيير الديمقراطيّ.
لقد شكّلت المبادرة العربيّة فرصةً لإنقاذ سورية وتغيير نظامها في الوقت ذاته، وذلك بقطع النّظر عن مصالح المتصارعين على السلطة، نظامًا ومعارضة، وشكّلت مفتاح الحلّ الذي يجب أن يصار إلى الضّغط للسّير في فلكه من خلال تغليب جميع الأطراف للمصلحة الوطنيّة ووضعها فوق الاعتبارات الشخصيّة. ومن الواضح أنّ مسألة ضرورة الانتقال إلى الديمقراطية باتت مسألة مفروغا منها، ولا عودة عنها، ولكن السّؤال الذي يجب أن يشغل الدول العربية وأيّ قيادة مسؤولة تطرح نفسها لقيادة الشّعب السوريّ، هو كيف يتمّ ذلك من دون التّضحية بسورية؟
الرابط
وحدة تحليل السياسات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
http://www.dohainstitute.org/Home/Details?entityID=5d045bf3-2df9-46cf-90a0-d92cbb5dd3e4&resourceId=8abe0b55-d2e9-479c-acab-b55c5aa4ac31