صفحات الرأيغازي دحمان

هل الحل في عودة الاستعمار؟/ غازي دحمان

 

 

نشر الباحث الأميركي روبرت كابلان في العدد الأخير من مجلة «فورين بوليسي» بحثاً مثيراً للاهتمام والسجال في آن واحد، البحث عبارة عن محاولة لإيجاد مقاربة، للخروج من الأزمة التي تمر بها المنطقة جراء الحروب المتصاعدة، وحال الفوضى التي وجدت على هامشها. وهذا البحث هو أكثر من وجهة نظر وأقل من توصية لصانع القرار، ويمكن إدراجه بشكل دقيق في إطار التنبيه السياسي العام، المنطوي على رسالة للنخب الفاعلة في المنطقة، ولأصحاب المصالح في العالم الغربي، الذين يرتبطون بمصالح معينة في المنطقة.

يركز كابلان في بحثه على حالة الفوضى السائدة في المنطقة، ويعتبرها الخطر الأكبر، والمتغير الذي يستحق المعالجة، وليست مطالب الشعوب بالعدالة والديموقراطية. ذلك أن أولوية الأولويات باتت محصورة في استعادة النظام لهذه البقعة من العالم. ويشير كابلان إلى أن آليات تحقيق النظام تمثلت تاريخياً في ثلاث أدوات: الإمبريالية، التي رسخت على الدوام حال النظام، حتى في مراحل تراجعها. والدولة العثمانية، التي قامت على مر مئات السنين بضبط الصراعات بين المكونات وحمايتهم من بعضهم البعض. ثم الأنظمة الاستبدادية التي فرضت النظام بالقوة والقهر على هذه الكيانات، وطبقت التعاليم الإمبريالية بدقة، خصوصاً لجهة الحفاظ على الهندسة الإقليمية، كما رسمها الاستعمار الأوروبي.

يميز كابلان بين نوعين من الدول، دول ذات تاريخ مؤسساتي وهويات راسخة، مثل مصر وتونس، لذا كان سهلاً عليها أن تتجاوز القطوع التي شكلتها حال الثورة في كليهما وأن تعاود مسيرتها. ودول يعتبرها هشة، نظراً للمكون الاصطناعي الكبير الذي تنطوي عليه، وبخاصة من النواحي الجغرافية والديموغرافية، ومنها سوريا والعراق، ويرى أن هذه الدول لم يكن ممكناً حكمها إلا بالطغاة والمستبدين، ومن خلال رفع شعارات العلمانية، للتغطية على التناقضات الأيديولوجية، بين المكونات المتناقضة عقائدياً.

غير أن كابلان يتحدّث عن خلل بنيوي تاريخي وعميق، في بنية الدولة المشرقية، بحيث يستحيل إصلاحه في إطار صيغة الحكم الحالية، يتمثّل في وجود مساحة ضخمة خالية من أي بناء سياسي، وهي المساحة التي تمتد ما بين قمة الأنظمة في هذه المنطقة، وبين النظام والقبيلة والأسرة الممتدة من الجزء السفلي. فقد تم انتزاع كل الأشكال الوسيطة من النظم الاجتماعية والسياسية من قِبل هذه الأنظمة الشمولية. لذا لم يكن ممكناً حكم هذه الدول سوى عبر الصيغة الاستبدادية. ويعزي سبب الفوضى الحاصلة إلى انهيار تلك الأنظمة، على اعتبار أن الاستبداد كان هو البديل الوحيد لنهاية الإمبريالية الغربية في هذه الدول المصطنعة.

غير أن كابلان وفي إطار انحيازه المعلن للإمبريالية ووريثتها النخب الاستبدادية، يغيب عن باله الانتباه الى مسألتين جوهريتين، تتحملان القدر الأكبر من المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع الراهنة في المنطقة، الأولى: أن الإمبريالية لم تكن تسعى إلى فرض النظام في المنطقة، بوصفه وسيلة للاستقرار والتطور، بقدر ما كان الهدف منه هو تشكيل هندسة لتقاسم المصالح بينهما، تنتهي مقتضياته بانتهاء وظيفته. وبالتالي، فإن تلك الحالة لم تكن تأسيسية بقدر ما كانت حالة إدارة موقتة، لإنجاز وظيفة النهب الاستعماري. الثانية: أن الأنظمة الاستبدادية، التي ورثت هياكل الحكم والدول، لم تستطع الخروج عن الخطوط التي رسمها الاستعمار ولا الآليات والاهداف التي حكم بها. وبالتالي، كان استمرار منظومة الإخضاع والنهب بوصفها المنظومة الأكثر مأسسة ورسوخاً في هذه الكيانات.

ولا شك أن استمرار تفاعل الصيغة الإمبريالية ووريثتها الاستبدادية، هو المسؤول عن وصول المنطقة إلى هذه المرحلة، ذلك أن نمط الإدارة القائم على الاستبعاد والتهميش، والرافض لتطوير صيغه بحيث يمكنها استيعاب التغيرات التقنية والاجتماعية، هي التي أفرزت هذا النمط الصراعي القاتل الذي تشهده المنطقة، وهو المسؤول عن تهميش القوى المدنية المتنورة، التي لم تجد فرصة ولا أطراً تستوعبها، ولم تجد لها مكاناً حتى في الصراع الجاري، لأنها لا تمتلك أدواته ولا تصدر عن منظومته القيمية، النافية لكل من هو خارج إطار التفكير الأصولي (أصولية الأنظمة وأصولية المتدينين).

ثم إن كابلان يلوح بحجر لا يستطيع حمله هو نفسه، ذلك أن إمبرياليته لم يعد لديها الطاقة الكافية لإخضاع المجتمعات، حتى أنه لم يلتفت إلى حقيقة أن هذه الإمبريالية غيّرت من أدوات سيطرتها بطريقة جذرية وصارت تميل إلى مناخات الفوضى بل تذهب إلى صناعتها، لدرجة أنها صارت تتفنّن بأنماط تلك الفوضى ودرجاتها وأشكالها، كـ»الفوضى الخلاقة« التي أنتجها الفكر الغربي، والتي وجدت تطبيقاتها الأولى في أفريقيا قبل الشرق الأوسط، وبخاصة في منطقة البحيرات الكبرى، ذات الثروات الهائلة، والتي انتهت إلى صيغة جديدة في التعامل معها عبر إشعال الحروب الدامية بين قبائلها، من أجل اضطرار تلك القبائل إلى بيع ثروات المناطق التي تسيطر عليها مقابل حصولها على السلاح من الشركات الغربية، لتغذية حربها المستمرة ضد بعضها البعض، أو من خلال صيغة «حرب الجميع ضد الجميع».

يبدو أن طروحات كابلان كانت تصلح لزمن مضى أكثر من صلاحيتها للمرحلة الراهنة، الحقيقة أننا إزاء انهيار النموذج الغربي وانهيار الترتيبات التي أقامها الاستعمار، والمنطقة اليوم بصدد تبلور نظام جديد.

كم سيستغرق تأسيس هذا النظام وكيف سيكون شكله وتصميمه ومن هي القوى الفاعلة فيه، تلك قضايا ستقررها التفاعلات التي ستحصل في المنطقة، والأرجح أن ذلك سيستغرق وقتاً مديداً من الزمن.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى