هل القتلة بشرٌ مثلنا؟/ سمير الزبن
يبحث السوريون ممن لهم ابن أو أب أو أخ أو أخت أو قريب مفقود أو معتقل في صورةٍ تتسرب بين الحين والآخر من معتقلات النظام السوري، متمنين أن لا يكون قريبهم من بين الجثث في الصور المرعبة، على أمل أن تحصل معجزةٌ، ويعود فيه المفقود إلى أهله. لا شك في أن العصابة الحاكمة في دمشق قد حوّلت حياة السوريين إلى جحيم، ليس بالمعنى المجازي للكلمة، بل بالمعنى الفعلي. كل يوم يمر يكشف المزيد من الجرائم المرتكبة في سورية، حتى بات البلد منتجاً لألبوم الرعب الذي يصوّر الهولوكست السوري المستمر منذ ست سنوات. عشرات آلاف الأبرياء، ليس لهم ذنب، سوى أنهم كانوا في المكان الخطأ في الزمان الخطأ، ما عرّضهم للاعتقال، وبالتالي، لأبشع أنواع التنكيل والتعذيب، وأن يد الجلاد لا تكفّ عن القتل داخل المعتقلات وخارجها.
وبما أن الجرائم المعروفة إلى اليوم يمكن أن تكون قمة جبل الجليد للجرائم المرتكبة بحق السوريين، فلنا أن نتخيّل أي هولوكوست مرَّ ويمرُّ السوريون به على يد النظام المجرم في دمشق، من دون أن يرفّ للعالم جفن، والى متى سيستمر؟!. يبعث التطابق بين صور الهولوكست اليهودي على يد الألمان والهولوكست السوري على يد النظام على الفزع، لا فرق بينهما سوى أن صور الهولوكست السوري ملوّنة، ولو تم حذف الألوان من الصور وخلطها مع صور الهولوكست، لما تم تميز الصور عن بعضها بعضاً.
تبعث عمليات القتل على الذهول، ليس بسبب وحشيتها فحسب، بل، وبسبب ضعف الإجابة
“أي منظومةٍ قيمية في غاية التشويه أنتجت هذه الوحوش البشرية، مصاصي دماء بشر مثلهم” التفسيرية لهذا السلوك، ورفض العقل البشري السوي الإقرار به بوصفه واقعاً يستمر في واقعيته المرعبة. وماذا عن نوعية البشر التي ترتكب هذه الجرائم، عن البشر بوصفهم آلات قتلٍ جهنميةٍ بيد الطاغية، أدواتٍ لفرم البشر بلا رحمةٍ وبلا رفّة جفن. لذلك، لم يكن من الغريب أن يحمل تقرير منظمة العفو الدولية (أمنستي) عن جرائم سجن صيدنايا عنوان “المسلخ البشري”.
من أين جاءت كل هذه القسوة؟ أين تربى هذا الإجرام السادي المنفلت من عقاله؟ أي منظومةٍ قيمية في غاية التشويه أنتجت هذه الوحوش البشرية، مصاصي دماء بشر مثلهم؟ هل تفسر “عادية الشر” التي كتبت عنها حنة أرندت في كتابها “إيخمان في القدس”، والذي يحمل عنواناً فرعياً “تقرير عن عادية الشر” الوضع السوري. شكل إيخمان في نظر أرندت نموذجاً للإداري التكنوقراطي الذي يرتكب أبشع الجرائم بضمير مرتاح من دون أن يرفّ له جفن، بوصفه جزءاً من الآلة. ينزع تعبير “عادية الشر” الذي استخدمته أرندت الشيطنة عن الجناة والقتلة، مصورة إيخمان بوصفه موظفاً بورجوازياً تافهاً، وليس سادياً أو شاذّاً، كما حاول الادعاء الإسرائيلي أن يصوّره، بل شخصاً عادياً تماماً، ومرعباً في عاديته. لم ترَ أرندت في إيخمان تجسيداً للشر، بل اعتبرت أن الكارثة تكمن في قدرة النظم الشمولية على تحويل البشر إلى محض “منفذين” و”تروس” في الآلة الإدارية لدولة البطش، أي تجرّدهم من إنسانيتهم، وتجعلهم منفذين للشر، بوصفه الأمر الطبيعي الذي عليهم القيام به.
ليس التحليل الفكري وحده الذي يتحدّث عن تحول البشر إلى تروسٍ في آلة الدولة الشمولية المدمرة، علم النفس بدوره يدعم هذه العادية للشر. بعد الحرب العالمية الثانية، تم إجراء تجارب وأبحاث نفسية عديدة لإيجاد أجوبةٍ مقنعةٍ عن كيفية اتباع الإنسان أوامر قد تعتبر غير أخلاقية أو إنسانية. من أشهر هذه التجارب تجربة العالم النفسي الأميركي، ستانلي ملغرام، مطلع الستينات، وفيها قام بتجنيد متطوعين مقبولين من الناحية الثقافية والاجتماعية، وقام بتوزيع الأدوار عليهم، من دون أن يدري المتطوعون الغرض الرئيسي من التجربة. وضع ملغرام أحد الأشخاص في غرفةٍ مغلقةٍ، لا يمكن لأحد رؤيته فيها، وأعطي لهذا الشخص تعليمات أن يخطئ بصورة متعمدة في هجاء بعض الكلمات. على الجانب الثاني من الغرفة، كان هناك شخص مزود بقائمة من الكلمات التي طلب منه أن يلقنها للشخص الموجود في الغرفة، ليقوم الأخير بهجائها بالصورة الصحيحة، وإذا أخطأ فعلى السائل أن يضغط على زر يؤدي إلى صعق الشخص بشحنةٍ كهربائية، تُزاد كمية الشحنة في كل مرة يرتكب فيها الشخص خطأ إضافياً. في الحقيقة، لم يكن هناك أي جرعة كهربائية، لكن السائل لم يعرف ذلك، والشخص الموجود في الغرفة كان يتصنّع الصراخ من الألم كل مرة يضغط السائل فيها على الزر. لم يكن لكل المشتركين أي مانع من تنفيذ هذا الأمر، ما أدى إلى الاستنتاج بأن للإنسان نزعة بإتباع الأوامر، إذا ما اعتقد أنها صادرة من أشخاص مسؤولين، حتى إذا كانت هذه الأوامر منافيةً للمنطق.
مرعبةٌ فكرة “عادية الشر”، يعني أن الشر مقيم بيننا، في منازلنا، بين أصدقائنا، جيراننا، في البشر البسطاء الذين يسيرون في الشارع، كل هؤلاء يمكن تحويلهم إلى تروسٍ في آلة القتل،
“مهما كان حجم الإجرام، فإنه لا يمكن القبول بعادية الشر، ولا يمكن قبول أن البشر يرتكبون جرائمهم بوصفهم جزءاً من آلة كبيرة” يمكن أن يذبحوني أو أذبحهم في أي وقت. لكن، لا. مهما كان حجم الإجرام، فإنه لا يمكن القبول بعادية الشر، ولا يمكن قبول أن البشر يرتكبون جرائمهم بوصفهم جزءاً من آلة كبيرة. هل كان يمكن للضحايا أنفسهم أن يكونوا قتلة؟ لا يمكن عكس المواقع في التاريخ الحي، القتلة هم القتلة والضحايا هم الضحايا. وإذا كان الضحايا لم يختاروا موقعهم، فإن القتلة اختاروا موقعهم، وتمترسوا فيه، خصوصاً بعد ست سنوات من الدم السوري النازف. اختار النظام أن يمضي في مذبحته إلى النهاية، واختار من حوله أن يحموا النظام بكل ثمن، وإذا كانت الوحشية الدموية هي النتاج الطبيعي للتمسك الكلبي بالسلطة، فإن الشر لا يمكن فصله لا عن السلطة، ولا عن القتلة المندمجين في هذه السلطة، ولا ينفذون المذبحة فقط لأنهم تروسٌ في آلة، بل لأنهم جزء من الآلة ذاتها، ومصالحهم مرتبطة بها. من الممكن الحديث عن مجندين برتبٍ منخفضة، بأنهم أسرى آلة الدولة. لكن، لا يمكن أن ينطبق ذلك على رئيس فرع أمني، فهو جزءٌ من آلةٍ صممت أصلاً من أجل القتل، واختار أن يكون جزءاً أساسياً من هذه الآلة، ولا يغير من هذا التكوين تفاهة من يقف على رأس هذه الآلة، رئيس قادته المصادفة، ليتحكم ببلدٍ كأنها لعبة أطفال. قد تكون المصادفة في التاريخ أسوأ عامل موضوعي في تاريخ بلد، وهذا ما ينطبق على الوضع السوري في ظل رئاسة بشار الأسد.
العربي الجديد