هل تريد أميركا دوزنة العالم بلحم السوريين؟/ غازي دحمان
إذا صح اعتبار ما ورد في خطاب وزير الخارجية الأميركية، ريكس تيلرسون، استراتيجية جديدة لمساعدة السوريين على إنهاء مأساتهم، فما على هؤلاء سوى تجهيز أنفسهم لنكبة مديدة تطوي، في ثناياها، ما بقي سالما منهم، قبل أن تنضج ثمار تلك الإستراتيجية.
صحيح أن خطاب تيلرسون جاء على ذكر رحيل الأسد، وهو الهدف العتيد للثورة السورية، كما صرح بوضوح عن محاربة النفوذ الإيراني، وكذلك دفع روسيا إلى التفاوض بشروط جديدة، لكن ما تم فهمه بين السطور أن أميركا ستفعل ذلك كله، وهي تلف ساقاً على ساق شرق سورية، ولن تغير شيئاَ من قواعد اللعبة وشروطها، كما لن تطوّر أدواتها في هذا السياق، وجل ما يمكن أن تجود به هو إعادة تفعيل بعض أساليبها السابقة، والقائمة على تزويد بعض الفصائل، وليس كلها، بما يمكّنها من مناوشة الروس والإيرانيين، بقدرٍ لا يسمح لهم بإنجاز تحرير بلدهم بشكل حاسم، ولا يسمح للخصوم بالقضاء على الفصائل دفعة واحدة.
هي عملية استنزاف لجميع اللاعبين بإدارة أميركية، وهو هدف جرى تطويره خلال إدارتي الرئيسين، باراك أوباما ودونالد ترامب، ويتناسب مع ظروف أميركا نفسها وإمكانياتها، مع الأخذ بالاعتبار التطورات الحاصلة في البيئة الدولية، وصعود قوى دولية وإقليمية، لها تأثيرات واضحة في بعض الأقاليم، لكنه لا يهتم، من بعيد أو قريب، بمشكلة الشعب السوري، بقدر ما يعتبرها فرصةً لتحقيق مقتضيات الاستنزاف.
تمثل سورية، في التقدير الأميركي، جغرافيا مثالية لاستنزاف روسيا، بنسختها الجديدة، بعد أن
“تمثل سورية في التقدير الأميركي، جغرافيا مثالية لاستنزاف روسيا بنسختها الجديدة”
طوّرت أدواتها في إزعاج الغرب، وتقترب من التحوّل إلى ورشة تخريب متنقّلة، تضع يدها على نقاط ضعفه، وتلسعها بطريقةٍ لا تترك دليلاً مباشراً على فعلتها، لكن المؤكد أنها تثير هيجانا واسعا في المجتمعات الغربية، إلى درجة تهديد أعمدة استقرارها، كما فعلت بأميركا بعد تدخلها في انتخاباتها الرئاسية، وتصويت “البريكست” الذي أخرج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي.
وإذا كان من غير المنطقي، ولا من الممكن، رد الصفعات الروسية بالطريقة نفسها لاختلاف المعطيات، وطبيعة النظام السياسي، واختلاف أدوات تواصله مع جمهوره، وإختلاف الثقافة الروسية عن مثيلتها الغربية، وبما أن العقوبات الاقتصادية لم تُجد نفعا، ولا هي أضعفت التأثيرات الروسية في محيطها، وما هو أبعد، فإن الاستنزاف هو الوصفة الأكثر تلاؤما وأكثر فعالية.
أما إيران، وبعد أن أكلت الحصاد الأميركي في العراق، ونشرت نفوذها إلى تخوم إسرائيل، فمن المفهوم أن تسعى واشنطن، بكل قوتها، إلى تدفيعها ثمناً يجعلها غير قادرة على السيطرة على زمام الأمور، ليس في المناطق المذكورة، بل في الداخل الإيراني نفسه، وليس أفضل من إستنزاف قدراتها ومواردها في صراعات طويلة الأمد، ولا أفق لها، خصوصا وأن أحداث إيران أخيرا، وحالة التذمر التي شهدتها مدن إيرانية نتيجة سوء الأوضاع الإقتصادية، ستدفع الإستراتيجيين الأميركيين إلى التركيز على هذه الجوانب، في صراعهم مع النظام الإيراني.
وتنطوي الإستراتيجية الأميركية على بعد صيني غير معلن، حيث تتقدّم بكين بخطىً حثيثة صوب إنجاز مشاريع طريق الحرير والحزام، وتقترب من قضم الشرق الأوسط من الرصيد الأميركي، وطيّه تحت نفوذها، بل وبدأت الوصول إلى موانئ أوروبا وأسواقها. وفي الوقت نفسه، تطرح نفسها بديلاً للقوّة الأميركية، وترفض التعاون معها في آسيا، وأمام عجز واشنطن عن إخضاعها لشروطها، فأضعف الإيمان هو إبقاء الشرق الأوسط، بوصفه نقطة الوصل بينها وبين أوروبا، ملتهباً إلى حين، وبيئة غير صالحة، لا لمد طريق الحرير، ولا لربط موانئه بشبكة الموانئ الآسيوية الأوروبية.
لكن كيف تستطيع أميركا تأديب الروس، وضمان انكفاء إيران، وعرقلة التمدد الصيني، بالرهان
“ثبت أن لدى روسيا وإيران القدرة على تغيير الوقائع بطريقة عنيفة وسريعة، إذا لم يتم ردعهما بشكل مباشر”
فقط على لحم السوريين، وفي مواجهة خريطة صراعاتٍ عالميةٍ، وقوى مصمّمة على التحدي، وجعل سورية بداية لانطلاقتها قوّة وازنة ومؤثرة؟
صحيح أن السوريين في مواجهة حرب مصيرية تتعدى حتى مجرد إخضاعهم إلى إلغاء وجودهم، لكن إذا كانت أميركا جادة، وقد تتقاطع مصالح السوريين معها، يجب أن تكون أكثر جرأة ومبادرة، لا أن تمنح تلك الأطراف المحفزات للاستمرار بسياساتها وتمنحها الغطاء للقيام بذلك، من دون أن تقدم ما يتناسب مع هذا الهدف؟
قد يحقق تراكم الاستنزاف النتائج المرغوبة أميركياً، لكن المؤكد أن لدى روسيا وإيران القدرة على التكيف، على المدى الطويل، مع الأضرار الحاصلة ومعالجة آثارها مع الزمن، طالما أنه لا وجود لرأي عام من الممكن أن يثور عليهما، وطالما لديهما القدرة على الالتفاف على خسائرهما عبر استغلال فقراء الجمهوريات الإسلامية والأفغانيين والباكستانيين.
بالإضافة إلى ذلك، ثبت أن لدى روسيا وإيران القدرة على تغيير الوقائع بطريقة عنيفة وسريعة، إذا لم يتم ردعهما بشكل مباشر. وبالتالي، فإن إعادة الأساليب نفسها، وبالاعتماد على الأدوات القديمة، أمر غير مجدٍ، إذا لم يقترن باستراتيجية تصدٍّ واضحة، لها موارد وخطط وأصناف جديدة من الأسلحة.
هل يملك السوريون رفض اليد الأميركية؟ وهل من المصلحة تضييع فرصة تحقيق الحد الأدنى من التوازن مع الطرف الآخر الذي يستشرس عليهم؟ ما هو متاح وممكن الآن إعادة هيكلة قوى الثورة، وإيجاد الإطار المناسب، وتحديد الأساليب والأدوات اللازمة لتحقيق أهدافهم، فلا روسيا وإيران سيتركانهم، بعد أن تأكدوا من أن الصراع مع أميركا واقع، ولا أميركا ستقدّم لهم ما يضمن الخلاص.
العربي الجديد