صفحات العالم

هل تسعى واشنطن إلى إعادة رسم خريطة المنطقة؟/ حسن منيمنة

 

كما في الشأن العراقي، وقبله السوري، وكذلك المصري واليمني والليبي، يغيب عن الواقع الخطير الذي يشهده قطاع غزة اليوم أي دور فاعل للولايات المتحدة. وفي حين تعمل الأوساط المقربة من البيت الأبيض على تصوير هذا الغياب بوصفه تحقيقاً لسياسة متعمدة هدفها تخفيف وطأة الدور غير المبرر والذي سبق أن تلبّسته واشنطن كرهاً أو طوعاً، أي دور «شرطي العالم»، فالحاصل أن متابعة البيت الأبيض للتطورات أصبحت قاصرة على أكثر من صعيد، فيما تراجع الثقة بين واشنطن وحلفائها يقصي الولايات المتحدة عن التأثير في قرارات الحرب والسلم في المنطقة.

وعلى رغم ذلك، فالتسريبات الصحافية في الولايات المتحدة، كما التحليلات المتكررة للسياسة الأميركية والواردة من المنطقة العربية، تشير إلى ما يبدو كأنه مسعى دفين للولايات المتحدة لإعادة رسم خريطة المنطقة. وفي هذه الإيماءات والتصريحات تمتزج الأوهام والمخاوف بطروحات مقارعة خصوم الأمس وبمساعي طمس العجز والفشل.

ففيما أزمات الشرق الأوسط تتفاقم نتيجة للانسحاب المتسارع للولايات المتحدة، بما يثير لدى الخصوم القناعة الزائفة بانتصارات تستوجب مزيداً من الإقدام، وما يؤصّل لدى الحلفاء الشعور بأن الاعتماد على المظلة الأمنية والسياسية لواشنطن لم يعد قطعياً، مع ما يستتبع ذلك من مساعٍ متضاربة في أكثر من موقع للاستحصال على ضمانات من مصادر جديدة، فإن الانغماس في إنكار هذه الحقيقة المتحققة، سواءً من خلال استعادة مقولة «الفوضى الخلاقة» (العبارة التي أطلقتها كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية في حكومة الرئيس السابق جورج دبليو بوش والتي لا يُشهد لها بعميق اطلاع على شؤون المنطقة) أو حتى العودة إلى التقرير المقتضب «القطيعة النظيفة» والذي أعدته مجموعة من المحافظين الأميركيين وقدمته لبنيامين نتانياهو يوم توليه رئاسة الحكومة الإسرائيلية في التسعينات… وهو التقرير الذي يكرر إنشائياً رغبات في إطاحة الخصوم ولا يأتي بأي جديد عملي، فإن كل هذا يدفع في اتجاه قراءات للأحداث بعيدة كل البعد عن واقع حال الولايات المتحدة، من حيث القدرة والرغبة على حد سواء.

وإذا كان ثمة مسعى أميركي لإعادة رسم الخريطة، فهو من دون شك في فلسطين التاريخية، أي بين دولة إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وحصيلة هذا المسعى كانت الفشل الواضح.

في الشأن الفلسطيني أضحى لجوء إسرائيل إلى القوة المفرطة غير المتكافئة في أعمالها الدفاعية والاقتصاصية والاستباقية والوقائية، من الثابت المتحقق، وكذلك عدم كفاية إجراءاتها الاحترازية لمنع الإضرار بغير المقاتلين، بل أساساً إهمال إسرائيل للمعالجة الفعّالة لأصول العداء المتواصل مع الفلسطينيين، أي الإقرار بحقوقهم والدفع في اتجاه التوصل إلى تسوية كافية. ولكن في المقابل، هناك إصرار الفصائل الفلسطينية على مواجهات عبثية وتصعيد اعتباطي مع إسرائيل، وتكليل الفعل بالقول العدائي المتوعد إسرائيل بالموت والفناء، مع تمام الإدراك بأن نتيجته تقتصر على الأذى للفلسطينيين، أسلوب أثبت عقمه وتكراره اليوم لا يجلب إلا مضاعفة المآسي.

لكن الجديد في هذه الجولة المؤلمة من الضرب المتكرر لقطاع غزة الخاضع للحصار (من جانب إسرائيل، كما من جانب مصر، قبل الثورة، وبعد الثورة، وبعد الانقلاب)، هو أن التنسيق الإسرائيلي- الأميركي في شأن العملية الحربية في حضيضه. وإذ كانت إسرائيل ما زالت تحظى بالدعم الشكلي من الولايات المتحدة، فإن سعيها إلى الحصول على موافقة واشنطن، أو التزامها الحدود التي قد ترسمها اميركا لحجم الضربة، ليسا اليوم من المعطيات الأساسية في التصور والتنفيذ.

وعلى رغم المثابرة الاسمية على التشديد على أهمية حل الدولتين، فالقناعة المتنامية في أوساط في واشنطن هي أن إمكانية تطبيق هذا الحل تراجعت، من دون أن تتقدم حظوظ الحلين البديلين: فلا إسرائيل سائرة باتجاه استيعاب الفلسطينيين ومنحهم حقوق المواطنة، ولا هي قادرة على ترحيلهم للحفاظ على هويتها اليهودية. فعلى رغم الجهود ذات النبرة العالية والتي بذلها وزير الخارجية الأميركي جون كيري في الهامش غير المقنع من حرية التحرك والذي منحه إياه البيت الأبيض، فالأزمة بين الطرفين تراوح مكانها وكأن جهود كيري لم تكن. طبعاً ثمة من يرى في مسعى الوزير محاولة لمنع فلسطين من الارتقاء إلى مقام الدولة ذات الشرعية الدولية، وثمة من يرى فيه مماطلة لتخدير إسرائيل فيما التسوية العملاقة مع إيران تكتمل معالمها. أما الأقرب إلى الواقع فهو أن واشنطن عاجزة عن رسم خريطة جديدة بين إسرائيل وفلسطين، وهي الرقعة الوحيدة في المنطقة التي لا يشملها انكفاؤها، فقدرتها على التأثير ومتابعتها لما يتعدى هذه الرقعة تراجعتا بمقادير.

وعلى رغم تراجع هذه القدرات، لا تخلو واشنطن من الزهو السلطاني، كما حال بعض السياسيين والإعلاميين الذين ارتقوا بحكم شح الاطلاع العام إلى مقام الخبرة والحكمة، على محدودية مع استجمعوه من معطيات. فالخرائط التي تعيد رسم حدود المنطقة، لتقتطع أجزاءً من دول وتبتكر دولاً أخرى، وتعيد توزيع الشعوب والمجتمعات، بل ترسم الحدود الدقيقة وتفترض أشكال العلاقات المستقبلية، تكررت في أكثر من محفل، ونسبت إلى أكثر من شخصية سياسية. خرائط ساذجة، أهوائية، بل صبيانية، لا صدقية طبعاً، لما تقتضيه من رؤيا وإقدام، بأن تشكل خطة عمل لرئاسة أميركية متراجعة ومرتبكة، غير أنها تحاكي أوهاماً في المنطقة العربية، يستعاض عنها بالخرائط والشعارات كدلائل لإقامة الدول بدلاً من المؤسسات والسلطة الفعلية.

الولايات المتحدة أعجز من أن ترسم خريطة جديدة للمنطقة، لكن المنطقة، كما يبدو عاجزة عن الاحتفاظ بخريطتها القديمة أو اجتراح أخرى جديدة. فما يستتب في عمومها، من ليبيا إلى العراق، ومن سورية إلى سيناء، ليس تقسيماً ودولاً جديدة، بل حالة انحلال وأمر واقع ملتبس واستنزافي، شبيه بالحال الذي رست عليه فلسطين وإسرائيل.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى