سلام الكواكبيصفحات الرأي

هل تلحق ثورة الفكر بثورة الشعب


ســـلام الكـواكبي

يعاني البحث العلمي في الدول العربية من حالة مفجعة تطورت مع نشوء الدولة الوطنية بعد مرحلة الاستقلال من خلال الممارسات القمعية والتهميشية والتجهيلية التي رسخت في الذهنية الحاكمة على مختلف مشاربها الفكرية من يسار ثوري إلى قومي شوفيني إلى يمين محافظ إلى ديني متزمت.

وقد اعتبر الحكام ومن لاذ بهم من الحواشي، بأن عدوهم الأول هو الشعب، وبالتالي فوعيه وتمكنه من العلوم الإنسانية تودي بأحلام السيطرة عليه وتطويعه إلى التهلكة. وكما قال عبد الرحمن الكواكبي في كتابه عن طبائع الاستبداد منذ نيفٍ ومائة عام، فإنه “لا يخفى على المستبد مهما كان غبياً أن لا استعباد ولا اعتساف إلا ما دامت الرعية حمقاء تتخبط في ظلامة جهل وتيه عماء”.

فالمستبد رئيساً كان أم ملكاً أو أميراً، يسعى إلى أن يعمّ الجهل في العقول مما يودي بالناس إلى التطرف في الفكر وفي الممارسة ويكونون أمامه لقمة سائغة من خلال منظوره لإدارة شؤون البلاد المرتبط أولاً وأخيراً بالذهنية الأمنية القمعية. فالجاهل يفقد كل حجة أمام العالم بأمور دنياه وحاجاته ونواقصه وآماله وتجارب الشعوب الأخرى وتاريخه. أما مواجهة المتعصب المتقوقع في أفكارٍ ظلامية، فمتاحةٌ أمام المستبد الذي نشأ على تقمّص العنف كعقيدة واتبعها كممارسة تساعده على بسط هيمنته.

انطلاقاً من هذا الموقف العصابي تجاه العلم والعلماء، جهدت السلطات المستبدة في الإساءة إلى الحقل الأساسي في بناء المجتمعات وهو حقل التربية والتعليم. وقد جرى عمل ممنهج في هذا الاتجاه مما جعل مستوى المدارس والجامعات في الحضيض وجعل من مهنة المعلم والأستاذ في أدنى السلم الاجتماعي والاقتصادي.

وعلى الرغم من أن الكثير من الأحزاب التي ادعت التوجه الاشتراكي للوصول إلى الحكم، استندت في قواعدها على طبقة المعلمين والمتعلمين، إلا أنها ما لبثت أن شعرت بخطرهم كما شعرت بخطر الجيش، فعمدت إلى تهميش فاعليتهم ودورهم، وأطرتهم ضمن منظومات بيروقراطية وأمنية.

ومن جهتها، قامت الحكومات ذات المرجعية الدينية، بتقييد العلم والبحث العلمي واعتبرتهما حصراً على الأمور الشرعية وذلك على حساب العلوم الإنسانية التي تحفّز الذهن والمراجعة النقدية، مما يشكل بالنسبة لبعض المتعصبين خطراً ماحقاً على حسن سير “الدعوة”. والكواكبي يقول في هذا أيضاً بأن المستبد “لا يخاف من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد والمختصة بين الإنسان وربه، لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة و لا تزيل غشاوة، وإنما يتلهى بها المتهوسون للعلم حتى إذا ضاع فيها عمرهم، وامتلأت بها أدمغتهم، وأخذ منهم الغرور مأخذ، فصاروا لا يرون علماً غير علمهم، فحينئذ يأمن المستبد منهم كما يؤمن شر السكران إذا خمر”.

وقد أثبتت النظم المستبدة في مختلف الدول العربية أن علاقتها إشكالية وتكاد تكون صدامية مع الفكر والمفكرين والعلم والعلماء. ومارست سياسات تهميشية وتجهيلية ممنهجة أدت بأجيال كاملة إلى فقدان العلاقة المطلوبة والمحبذة مع الفكر الإنساني. ويكفي النظر إلى مقارنة مستوى التعليم العالي في هذه الدول بنظيره في الدول الصاعدة أو دول العالم الثالث الأخرى التي نجحت، وعلى الرغم من مصاعب اقتصادية جمة، في أن تعطي العلم مجالاً واسعاً في إطار سياساتها العامة. وقد ارتبطت هذه الآلية أولاً وأخيراً بطبيعة نظام الحكم ونسبة الحرية الكامنة فيه.

في مناخ من القمع والإقصاء والتخوين، جهد الفكر العربي في إيجاد منافذ تنفس حرمته منها أنظمته الاستبدادية التي لم يشارك البتة في اختيارها. وعلى الرغم من أن البعض من المفكرين وأنصاف المفكرين ساهم، مرغماً أو سعياً نحو جاهٍ ومرتبة، في إطالة عمر المستبد وفي الدفاع عن أفعاله وتبريرها وفي إيجاد الصيغ “الثقافية” للعقلية التي تقود ممارسات القمع، في إطار العلمانية أحياناً أو في إطار الأصولية الدينية أحياناً أخرى، إلا أن الغالب الأعم من المفكرين وجدوا أنفسهم في هامش المجتمع.

وشكلت هجرتهم إحدى أهم ظواهر الوضع العام في البلاد العربية. فإن لم يهمشهم العقل السياسوي الأمني الحاكم، واجهتهم قوى ظلامية متجبّرة، وجدت لها مساحة عمل في إطار النظم القمعية في سعي مشترك للسيطرة على المحكوم. وما زال الصديق الراحل الدكتور نصر حامد أبو زيد علماً من أعلام الفكر النيّر ورمزاً لضحايا العقلية الإقصائية المتخلفة التي تحابّت وتزاوجت مع السلطان في الكثير من الحالات. وأدى زواج “المتعة” هذا إلى صحرنة المشهد الفكري العربي ودفع أبرز ممثليه الذين استطاعوا إنقاذ أنفسهم من القولبة ومن الاستقطاب، إلى الهجرة أو العزلة.

إضافة، فقد ترافق إفقار المشهد الفكري مع إفقار العمل السياسي في أغلب الحالات، وهو الشيء الذي سعت إليه أغلب السلطات الحاكمة. وأدى تأميم المجتمع السياسي والمجتمع المدني إلى حصر العمل السياسي في إطاره الأمني. وساهم الحد من حرية التعبير في إبعاد الفكر عن جمهوره المستهدف وصارت وسائل الإعلام أبواقاً تشوه الحقيقة وتنشر الكذب والرياء، وصارت الثقافة مرتعاً لأخصائيي مجلات الحائط المدرسية ذات المستوى المتدني، وساهمت المراكز “الثقافية” كما “العلمية” في زيادة التخلف الفكري والنقدي لدى أجيال من المجتمعات الضحية.

في هذا المناخ، من الصعب ومن المجحف أن يُلام أصحاب الفكر الحر، والذين استطاعوا النفاذ من بين ركام الجهل أو الهروب من قمع سلطات التجهيل، على ضعف مساهماتهم في تأجيج الفعل الثوري الذي أخرج عشرات الألوف إلى الشوارع والساحات العامة.

وبعيداً عن التفصيل في حال كل بلد عاش ويعيش مخاض التحوّل، فمن المفيد أن نلاحظ الدور السلبي الذي لعبه بعضٌ من رموز الفكر المتنوّر في بعض من الحالات العربية بحيث أفادوا السلطة الحاكمة من حيث يدرون أو لا يدرون.

كثير منهم اعتقد، بكل تجرّد وصدقية، بأن المستبد العادل أو المستبد المتنور أو المستبد “السوفت” هو خيرٌ لهم ولأوطانهم من تطوّر فكرٍ ديني/سياسي متطرف أو هكذا خُيّلَ لهم. وانضموا إلى تبريرات المستبد في سرد أسباب الحدّ من الحريات وفي تلميع الصورة الخارجية لما لهم من علاقات ومن مصداقية واحترام. وأمام إشكالية الاختيار، اعتبروا أن موضوع الحرية هو أمرٌ نسبي وبأن المطالبة بها يجب أن تكون على مراحل وبأن أولى هذه المراحل هي تحييد الفكر “الظلامي”.

معادلة معقدة للغاية لم يحملوا في جعبتهم أي حل منطقي لها. فالظلامية والتعصّب يعيشان وينميان ويتطوران في كنف الاستبداد بشكل أقوى وأشد عوداً من مناخ الحرية، وما التشبث بالمستبد العادل إلا وسيلة لدرء المسؤولية الأخلاقية والفكرية مهما كانت المسوغات. ولقد حفلت الأدبيات العربية بالتبريرات لأفعال السلطة واعتبارها ضرورية لحماية ما اعتقد البعض بأنه علمانية وما هو إلا بمسخ مشوه عن أحادية لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بالعلمانية الصحيحة والصحية. ووضع هؤلاء المفكرون أنفسهم في خندق أعداء الشعب، فحيّدوا دورهم الطليعي وبدؤوا في تخيّل مجتمعات مثالية ظناً منهم بأنهم خلقوا للعيش فيها أو لقيادة وعيها. وساهموا بالتالي في تعميم الضبابية والخلط في أذهان من أراد أن يقرأهم كنخب فكرية تنير الرؤى وتمهد الطريق أمام “العامة” المتعطشين للفكر وللموقف الفكري العميق.

وقد اختارت هذه الفئة ركوب قطار الثورة مع تأخير بسيط استند إلى الشك في مكوناتها ودوافعها، وسرعان ما لبث أن تراجع نسبياً عنها عندما اكتشف بروز التيارات الدينية كقوى فاعلة، واستنفذ طاقة كلامية هائلة في الهجوم عليها وعلى مشاريعها، في حين كانت هذه التيارات تمارس سياسة فعّالة جعلتها في مقدمة من استثمر نتائج التغيير، تاركة لهذه الفئة البكاء على الأطلال واستعادة حكايات الماضي المؤامراتي والتمرّس في لعب دور الضحية الدائمة.

ومن جهة أخرى، عانق أفرادٌ آخرون من النخب الفكرية المشهد الديني سعياً لإرضاء الذات المحبطة أو المجروحة بعد ما اعتقدوا بأنه سقوطٌ مدوي للمشاريع الفكرية الأخرى، والتي ربما أو أنه من المؤكد، أنهم قد ساهموا عملياً في سقوطها، أيضاً، عن وعي أو من دونه. وانضم هذا “النوع” إلى الفكر الغيبي الذي يبسط أمور الناس بإرجاعها أولاً وأخيراً إلى الرغبة الإلهية البعيدة عن أية محاولة للتأثير وللتعديل. فأصبح المقدس هو الإذعان وليس الإيمان. وفي إطار المسار الثوري الجاري في عديد من البلدان العربية، استطاعت هذه الفئة من تغيير لون الجواد الممتطى دون تغيير العقيدة أو المنهج. فسعت إلى أن تجد لنفسها مطرحاً ملائماً في المشهد الجديد، معتمدة بذلك على ذخيرة دينية فقهية تساعد في التوصّل إلى المبتغى الدنيوي في المتحوّل الجديد. خصوصاً، مع بروز حركات الإسلام السياسي على مختلف أشكالها، كلاعب رئيسي في هذا المشهد.

أما “النوع” الثالث من المفكرين، فأمعن في التخصص، وأنفصل جذرياً عن التعريف الجرامشي لدور المثقف العضوي، وتبنى سياسة النأي بالذات عن أي موضوع عام، واكتفى بالتعمّق الهروبي في أمور محددة غالبها تقني حتى إن كان في العلوم الاجتماعية والإنسانية. وهو بذلك استطاع العبور من بين فتحات شبكة السلطة والمجتمع. فلا هو تزلف للسلطة المستبدة ولا هو أفاد مجتمعه بفكره وعلمه وثقافته. مارس الثقافة كوظيفة أدرت عليه دخلاً وحمته (حرمته؟) من أي دور في بناء وعي مجتمعه. وفي أتون التحولات الجارية في العالم العربي، تابع هؤلاء هامشيتهم الوظيفية والوجودية بانتظار تبلور الصورة ربما للحاق بالركب أو الاعتكاف عن لعب أي دور في عملية التحول، أوفياء بالتالي لماضٍ مريح في التبرم عن الشأن العام.

وهناك نوعٌ رابع من المثقفين الذين اختاروا عن سابق إصرار وتصميم الوقوف إلى جانب المستبد ليس بحثاً عن علمانية مزيفة أو تحصناً أمام مدٍ حقيقي أو متخيّل للتيارات الدينية، بل هم اختاروا أن “يتعاملوا” كما الكثيرين من كبار الأسماء في التاريخ القديم والمعاصر ممن اعتمدوا على تمجيد السلطان وفتاته، وحتى أضحوا من دعامات الاحتلالات الخارجية والداخلية في الكثير من الدول ومن الحضارات. ومن المجحف أن يجرّد هؤلاء من مقدراتهم الذهنية والثقافية والفكرية. فهم متبحّرون في علومهم ولكن إشكاليتهم تكمن في طريقة استخدامهم لها. وقد ظهروا بشدة في بدايات الثورات العربية وما لبثوا أن بدّلوا خنادقهم بسرعة البرق فور سقوط رؤوس الأنظمة كما في تونس وفي مصر، في محاولة للاستفادة من النظام الجديد وإعادة إنتاج الموقع الوظيفي.

أما النوع الخامس والأخير، فقد كانت له مساهمة فعّالة في تحفيز التفكير والتحليل في مختلف المراحل ما قبل وأثناء وما بعد الثورات العربية التي أدت أُكلها أو الجزء اليسير منه. إنه المثقف العضوي بامتياز الذي لم ينصرف لا إلى مخاتلة الأنا الذاتية ولا إلى مداهنة السلطان المستبد والسلطة المهيمنة سياسية كانت أم دينية. وهو الذي اقتنع بأن الانتماء إلى النخبة لا يعني الانسلاخ عن الشعب وعن تطلعاته. وقد أدت الأدبيات الفكرية التي أنتجها هذا المثقف والمتعلقة بحيوات المجتمعات العربية والتي حملت تحليلات فكرية شاملة لمختلف أوجه النشاط الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي إلى تكوين وعي نسبي من خلال العملية التراكمية التي ساهمت في تأطير الحراك الاحتجاجي. وقد دفعت هذه الفئة من المثقفين ثمناً باهظاً من حريتها ومن لقمة عيشها وأضحت الهدف المفضل لحملات القمع والتنكيل إبّان مختلف عقود الاستبداد الذي استحكم في غالبية الدول العربية. وعلى الرغم من عزلها أو انعزالها عن الشارع لأسباب ذاتية وموضوعية، فقد استطاعت المحافظة على تواصل مستمر إن كان من خلال المقالات الدورية أو الكتب المنشورة بصعوبة أو المهربة أو من خلال اللقاءات الجماهيرية ضمن أطر ضيقة استفادت من عناوين ثقافية بحتة لتمرر رسائل سياسية غير آنية.

أصبح من المؤكد الآن بأن مجمل التحركات الاحتجاجية أو المسارات الثورية أو التمردات السياسية التي عرفتها وتعرفها عديد من الدول العربية منذ عامين تقريباً، جاءت في توقيتها وحجمها مفاجأة للمراقبين المحليين والدوليين. وعبّرت عن عفوية تبعث أحياناً على الشك لدى البعض والذين لا يرون إلا مؤامرات خارجية تحاك.

وقد برز بوضوح الفج العميق بين فكر الثورة وثورة الشعب، وأُجّهضت مقولة الفكر الثوري التي تلظى بها قادة مستبدون طوال عقود لسرقة نتاج الثورة الوطنية أو الكفاح الوطني السياسي الذي أدى إلى عمليات الاستقلال. وظهر من الواضح تماماً انعزال الشارع عن مفكريه في المطلق على الرغم من الحاجة الماسة التي برزت من خلال التحيّر في اختيار الشعارات حمّالة القضايا الأساسية للحَراك الثائر، أو اختيار السياسات أو الإستراتيجيات. وبدا أن عفوية الحِراك هي قوته في المرحلة الأولى، ومن ثم، توضّح بأنه يطالب بتلقائية أيضاً بأن يتم تأطيره فكرياً دونما الوقوع في محاولات الاستقطاب الفكري أو الأيديولوجي أو السياسوي.

وكان الخروج للمجموعات الاحتجاجية سلمياً غالباً، وخصوصاً في بداياته وقبل لجوء السلطات الحاكمة إلى القمع الدموي الممنهج، للمطالبة بما أملوا طويلاً بالحصول عليه تدريجياً وتفاوضياً من حقوق أساسية ووصلوا إلى قناعة استحالة الانتظار والترقّب والتأمّل. وقد أكّدوا أن الأجيال التي كانت تردد ما يُملى عليها من شعارات شمولية وإقصائية وتأليهية للحاكم قادرة على الخروج من قمقمها ومن أن تعبّر عن وعي قلّ نظيره دونما تأطيرٍ سياسيٍ أو أيديولوجيٍ أو تعبويٍ من أي شكل كان.

وعلى هامش الحَراك الشعبي المفاجئ، سعت قوى المعارضة التقليدية إلى اللحاق بالركب ومحاولة التأثير فيه أو وضع إطار مطلبي/سياسي لعناوينه المرتبطة بالحرية وبالكرامة وبالعدالة. ومن خلال هذا السعي، برزت مبادرات سياسية من قبل أفراد الفئة الخامسة المذكورة أعلاه ومعارضين أفراد أرادوا إعادة صياغة الحَراك بما يتناسب مع قناعاتهم الوطنية التي عملوا من أجلها ودفعوا أثماناً باهظة من القمع والسجن والتغييب والتهميش في سبيل الدفاع عنها. وأفضت المحاولات إلى بعض الهيكليات المؤطَّرة غير المؤثرة. ومن جهة أخرى، تنظّم الفاعلون الأساسيون في الحَراك ضمن تجمعات عفوية ما لبثت أن تهيكلت وعبّرت عن نفسها بعيداً عن الهيئات السياسية التقليدية في محاولة للتمايز لدرء السعي لاحتوائها من قبل المبادرات السياسية.

في هذا المخاض، وضح النقص البنيوي في الممارسة السياسية والفائض الهائل في العمل الفردي، خصوصاً لدى السياسيين المعارضين التقليديين. والفردانية في النشاط أو في التفكير أو في التنظيم ليست مجرد عاهة يمكن الشفاء منها بالتوعية أو بالتدريب. إنها نتاج سنوات من التهميش والإقصاء والشكّ والتشكيك. وتبين بوضوح الفوارق الكبرى بين من نَظَّرَ للحالة وبين من نَظَرَ إليها بتواضع وبموضوعية. بين من اعتقد بأن مجتمعه، بتكويناته المتعددة وبطبقاته المختلفة وبمناطقه المتباعدة، هو صورة طبق الأصل عما تخيّل له أن يكون أو عما سعى له في خضم نضاله المشكور، وبين من حاول أن يقرأ بموضوعية وعمق حقيقة المجتمع وقَبِلَ بالنتائج التي لا تتفق حتماً مع قناعاته الإيديولوجية المسبقة. إن الواقع والوقائع أثبتت بأنه لا يمكن في العلوم الاجتماعية تطبيق نظرية “كُنّ فيكون”.

من جانب آخر، تجدر الإشارة إلى أن جُلَّ ما كتب بشكل جيد ومعمّق عن الطبيعة الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمعات العربية جاء في لغات أجنبية وإن شابه أحياناً نفحٌ من استشراق، إلا أنه اعتمد منهجيات علمية رصينة ساعدته في أن يكون وفياً لموضوعه البحثي وهو لم يترجم للعربية. وبالتالي، فقد حُرم كثيرٌ من النخب الثقافية العربية من توسيع الأفق عبر مراجعته وظلّوا يعتقدون بما أرادوا أن يعتقدوا به حول آليات العمل السياسي المحلية أو حول أفق التطلعات الاجتماعية التي نظروا إليها في المرآة المصقولة بالأفكار التقدمية والتحررية.

انعكست الفجوة إذا بين معارضة في الشارع تعرف ماذا تريد بجملة واحدة، ومعارضون بعيدون بعض الشيء عن الفضاء المتأجج يمارسون العصف الذهني أو التحليل السوسيولوجي المستند أولاً وأخيراً على تمنياتهم وتطلعاتهم، التي وإن اتفقنا معها، فهي لا تعكس حقيقة المجتمع ولا حقيقة عناصره الفاعلة.

الوضع اليوم يحاول أن يخفف من عمق هذه الفجوة من خلال دعوة الجميع إلى التواضع وإلى النظر بعيداً عن مرآة الذات. ومن المعتقد، بأن منطلق العملية يحتاج أن تُحسن النخبة الثقافية المعارضة الظن بمجتمعها. ويمكنها أيضاً السعي إلى الابتعاد عن الرغبة بتطويع المجتمع بما يتلاءم مع آمالٍ نظريةٍ عاشت عليها.

كثيرة هي الأسماء التي “قادت” نظرياً الحَراك وسعت لأن تبرز من خلاله أو على حسابه. وكثيرة هي الأسماء من هذه الأسماء التي لها كل الشرعية بأن تكون ذات تأثير في عملية التراكم المعرفي والفكري المؤطرة لأي تحرك عفوي في حدود الاعتراف بالآخر. والآخر هنا هو الوقود الحقيقي لهذا المسار، أي الشعب المحتج، الثائر، المتمرد على قيود أثقلت كاهله لمدة طويلة. وبالمقابل، برزت تيارات فردية، أو تجميعية، حملت أساساً رغبة في المساهمة الإيجابية، وتحولت مع الممارسة، ونتيجة كل الأمراض البنيوية سالفة الذكر، والتي يتحمل النظام السياسي جزءاً كبيراً من ترسيخها في بنية النخب، تحولت إذاً إلى بؤر تركّز الأنا الذاتية السيكوباتية وتقوم بنشر منتوجها اللفظي. وبدأت عملية قياس مشروعية ونوايا كل من اختلف عنها أو حتى مجرد أنه لم يكن مسلّماً لها تسليماً أعمى.

ما يجري هو عملية مشتركة والتمايز ينحصر فقط في الفاعلية والتفعيل. القادرون على فهم واقع مجتمعهم وحقيقة تطوره (إلى الأمام أو إلى الخلف)، يستطيعون أن يستنبطوا طرائق ومسارات مساعدة. ومن الطبيعي البدء بالقول بأن حجة انعدام الممارسة السياسية لم تعد صالحة لتبرير التقصير العملي والنظري.

في ظل محاولة تجسير الفجوة بين المفكرين والشعب، والتي عمقتها أساليب الحكم الاستبدادية والتي مارست القمع الممنهج والتهميش والإقصاء، إضافة إلى الحواجز المجتمعية والدينية التي أبعدت المفكرين النقديين عن التأثير في المجال العام، يجتاز المنطقة العربي موجات من الاحتجاجات الشعبية التي تسعى إلى تغيير في المعادلة السائدة منذ عقود والمتمثلة بالقبول والرضا والخضوع أمام طغيان واستبداد حكومات وحكّام تحار الأدبيات السياسية بتعريفها الدقيق، فمن حكم شمولي إلى الدولة البوليسية إلى الأمنوقراطية إلى الديكتاتورية.

وتفسح الحالة الثورية السائدة بإعادة إحياء الحاجة الملحّة للبحث العلمي في المجال السياسي الواسع والمتشعب والمرتبط حتماً بمجمل العلوم الاجتماعية. خصوصاً وأن الحرية المبشّر بها ستحمل عنها مجالاً واسعاً لتطوير الفكر والعمل الفكري.

ونورد أخيراً بأن عبد الرحمن الكواكبي عندما فصّل الأمر وعرّفه في نهاية القرن التاسع عشر فكأنه يتطرق إلى إشكالية الفكر والثقافة والعلوم الإنسانية في واقعنا الحالي حيث “ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصّل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تُكبر النفوس، وتوسّع العقول، وتُعرّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النوال، وكيف الحفظ”.

عن مجلة شؤون عربية عدد 150

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى