هل تلعب روسيا الورقة الكردية؟/ مكسيم سوتشكوف
دكتوراه، زميل فولبرايت الزائر السابق في جامعة جورج تاون (2010-2011)، حالياً هو زميل في معهد الدراسات الاستراتيجية في مدينة بياتيغورسك شمال القوقاز، روسيا، وهو مساهم في مدوّنة جمعية الدراسات وسط أوراسيا.
ملخّص المقالة: “روابط روسيا مع المجتمعات الكردية في المنطقة تتيح فرصاً لمصالح موسكو في الشرق الأوسط، كما تشكّل عليها بعض المخاطر”
في 27 أيلول (سبتمبر)، أعلنت وحدات الحماية الشعبية (YPG/ الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي) مسؤوليتها عن قتل أبو عمر الشيشاني، أحد زعماء داعش، و15 آخرين في المجموعة. خبر كان يمكن أن يكون مجرد تقرير آخر على المناوشات التي لا تنتهي ضمن الصراع السوري، لو لم يتردد صداه في بؤرة أخرى تبعد كيلومترات كثيرة عن الشرق الأوسط: شمال القوقاز.
النزاع والتمرد والإرهاب الذي اجتاح المنطقة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي كان يتفاقم دوماً بفعل الفسيفساء العرقية المعقدة. بينما يشكّل الشيشان والشركس على الأرجح الجماعتين الأكثر شهرة خارج المنطقة من بين الفئات العرقية في شمال القوقاز- بسبب شتاتهم الواسع في الخارج فضلاً عن حربين لدى الجماعة الأولى وقضية إبادة الجماعية لدى الثانية- فإنّ هناك جماعة غير معروفة عملياً على المستوى الإقليمي، ولكنها تصعد، وقد يكون لوجودها آثار مفاجئة على صعيد سياسة روسيا في الشرق الأوسط: إنهم الأكراد.
على الرغم من عدم وجود غرباء تاريخياً في شمال القوقاز، إلا أنهم يمثلون أصغر جزء في الكوكتيل العرقي. أدى النزاع بين أرمينيا وأذربيجان في أوائل التسعينات إلى تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين الأكراد إلى روسيا المجاورة، في المقام الأول إلى المناطق الجنوبية والوسطى. وكشف تعداد عام 2010 عن وجود 23200 كردي ونحو 40600 يزيدي، الذين يعرفون نفسهم في روسيا بأنهم قوم متمايزون على الرغم من اعترافهم بأصولهم الكردية.
مع الوقت أنشأ الأكراد مراكز ثقافية في أكبر مدينتين في روسيا: موسكو وسانت بطرسبورغ، للحفاظ على هويتهم وثقافتهم. في الوقت نفسه، لا يزال تأثيرهم على العمليات الاجتماعية والسياسية الإقليمية محدوداً إلى حد ما، ما يبقيهم بعيدين عن رادارات المسؤولين المحليين. ولكن مع الحرب القائمة في سورية، والتوترات في تركيا، والانقسامات الخطيرة في العراق، فإن القضية الكردية تكتسب بعداً دولياً أكبر بالنسبة إلى روسيا.
وإذ يشعر أكراد شمال القوقاز بالقلق بشأن مصير أخوتهم في حال استولى المتطرفون على السلطة في سورية، فقد أرسلوا مساعدات إنسانية كبيرة للأكراد هناك. هذا، فيما انضم عشرات المقاتلين المتطوعين من شمال القوقاز (ومعظمهم من الشيشان وداغستان) إلى القوات المناهضة للنظام، ليجدوا أنفسهم على الجانب الآخر من المتاريس. الأكراد السوريون، من جانبهم، شكلوا جماعات مسلحة للدفاع عن شعبهم، وذكرت المصادر أنهم قتلوا أكثر من 80 مسلحاً من داعش وجبهة النصرة. يثير هذا الأمر مبررات أخرى للروس الذين يقاتلون في حربهم الخاصة ضد الإرهاب “إمارة القوقاز”، والذين يستميتون لإيجاد حلفاء أيديولوجيين على الأقل.
وكما هو الحال لدى الروس المسلمين الذين ذهبوا إلى الجهاد في سورية، وستهدد عودتهم بزعزعة استقرار شمال القوقاز الروسي، فإن الأكراد في سورية عرضة لبطش المتطرفين الأكراد أيضاً. وعلاوة على ذلك، فقد امتلك الروس خبرتهم الخاصة في محاربة المتطرفين الأكراد، وقتلوا اثنين منهم في الشيشان في 2011، تم التعرف عليهما لاحقاً بأنهما الشخصان اللذان فجّرا أنابيب النفط في تركيا. الواقعة تركت المحللين يفكرون فيما إذا كانا فقط يبحثان عن ملاذ آمن في شمال القوقاز، أو كانا ينويان تنفيذ أنشطة مماثلة. لكن، هل تكفي المصالح الأمنية المتبادلة لدفع عجلة تعاون أكبر بين الأكراد والروس، أو هل الأجندة الكردية معقدة لدرجة لا يمكن معها الاصطفاف مع روسيا؟
تعاطفَ الروس في الماضي مع المخاوف الكردية وقدّموا الدعم إلى حزب العمال الكردستاني. لكن الهوة اتسعت بين روسيا والأكراد منذ 1999، عندما وافقت موسكو ضمنياً على إلقاء القوات الخاصة التركية القبض على عبد الله أوجلان. في هذا الصدد، يمثّل تزايد السكان الأكراد في روسيا فرصة ناشئة يمكنها -إذا أديرت كما ينبغي- تدشن إعادة العلاقة وأن تعزز في الوقت نفسه طموحات موسكو للعودة إلى المنطقة كلاعب أساس.
ولكنه كذلك يمثّل بالنسبة لروسيا تحدياً مزدوجاً على الصعيدين المحلي والدولي. فالأكراد الذين استوطنوا في المدن الصغيرة والقرى أنشأوا لأنفسهم بيئة صديقة لتنمية أوضاعهم. ففي غضون سنوات قليلة جعلتهم هذه البيئة المجموعة المهيمنة في عدد من الأحياء، ما ساعدهم على الاستقلال الثقافي في العديد من المناطق، وغذّى طموحهم لشغل المناصب الإدارية العليا. أثار هذا الأمر احتجاجات مريرة من المواطنين الأصليين، الذين يخشون بالنظر إلى الاتجاهات الحالية أن يأتي وقت يطلبون فيه التعلّم باللغة الكردية، والإلحاح لاحقاً على نيل الحقوق الأخرى. سواء كان سلوكهم هذا مؤشراً على عدم الرغبة في الذوبان في المجتمع الروسي، أو مجرد وسيلة لتنظيم مجتمعهم، فإنّ الوضع يعكس إلى حد كبير المزاج الكردي الحالي.
قال أحد القادة الشباب من الشتات الكردي في شمال القوقاز: “من ناحية، نحن نفخر بالحفاظ على ثقافتنا هنا. نتكلم لغتنا هنا على نحو أفضل من إخواننا في الشرق الأوسط، حيث اجتاحت لهجاتِهم الاستعارة من اللغة العربية. ومن ناحية أخرى، أشعر نفسي جزءاً من السياق الاجتماعي الثقافي الروسي”. يتعيّن على موسكو أن تضع دوماً نصب أعينها قاعدةً غير معلنة للتعامل مع السكان الموزّعين: أي نبضة تنشأ في “البلاد” (في هذه الحالة، كردستان) تصل إلى أبعد نقطة في الشتات. والعكس بالعكس: أي مبادرة إيجابية محلية حيال الأكراد قد تؤثر إيجاباً على صورتها بين أكراد الشرق الأوسط.
لكنّ الحقيقة لن تحق في هذه المسألة إلا عندما يبدأ اللعب مع الجهات الفاعلة الأخرى في الخارج، وفي المقام الأول تركيا. فقد اتفقت موسكو وأنقرة على أن لا تتفقا بشأن دمشق، لكنّهما رطّبتا التناقضات من خلال تعاون براغماتي رصين، بما في ذلك صفقات الطاقة الساحرة. ومع ذلك، إذا بدأت روسيا تغازل الأكراد جدياً، فمن المستبعد لتركيا أن تجلس وتتفرّج وهي التي لديها الكثير من النفوذ الذي يمكنها أن تمارسه. لذلك، فإما أن يلجأ الكرملين إلى التوازن الحاذق (وهو نادراً ما يجيده)، أو أن يقرر ما إذا كانت العصفور التركي في اليد يساوي عصفورين كرديين على الشجرة.
لا شك أن موسكو تبذل كلّ جهدها للمزيد من التأثير على مجريات الأمور في الشرق الأوسط. وعلى هذه الخلفية، فإن احتضان رابع أكبر مجموعة عرقية في المنطقة قد يكون سلسلة في وصلة المبادرات الروسية بشأن سورية، والبرنامج النووي الإيراني، والمحادثات الإسرائيلية الفلسطينية. أما ما إذا كانت روسيا تمتلك الإرادة السياسية، والأهم: القدرة على فعل ذلك، فهذا أمر نترقّبه.
لقراءة النص الأصل باللغة الإنجليزية، انقر هنا.