هل حقا خان المصريون ثورة أشقائهم السوريين؟
شحاتة عوض
كثيرون من سكان القاهرة و زوارها يعرفون شارع سليمان الحلبي وسط القاهرة باعتباره من الشوارع الرئيسية المهمة والحيوية في قلب العاصمة المصرية ، لكن كثيرين أيضا ربما لا يعرفون من هو سليمان الحلبي، وهم معذرون في ذلك ، ففي عهد السماسرة وتجار الأوطان والدعارة الاعلامية والسياسية التي انتعشت في عهد مبارك وغيره من نظم الاستبداد في العالم العربي على مدى العقود الماضية ، لم يكن هناك مكان للحديث عن رموز وشخصيات كتبت صحفات مجيدة وناصعة البياض في التاريخ العربي معمدة بالدم الطاهر النبيل. من بين هولاء سليمان الحلبي ذلك الطالب السوري الحلبي العربي الذي قدم مصر في أواخر القرن الثامن عشر للدراسة في الازهر مثله مثل الالاف من العرب والمسلمين الذين كانوا يقصدون الازهر طلبا للعلم . لكنه اختار أن يدخل التاريخ من بابه الواسع عندما وجه طعنته النجلاء للجنرال كليبير قائد الحملة الفرنسية التي احتلت مصر عام 1798. ورغم أنه دفع حياته ثمنا وتم قتله بصورة بشعة ،إلا أن الحلبي كتب بموته شهادة حياة خالدة له في تاريخ مصر والعرب حيث عجل ذلك بانهاء الاحتلال العسكري الفرنسي لمصر. ورغم كل هذه السنوات الطويلة على واقعة الحلبي و كليبير ألا انها تظل شاهدا رائعا من شواهد كثيرة على تلك الاواصر والروابط التي تربط المصريين والسوريين. وهناك عشرات الامثلة التي تعج بها صحفات التاريخ العربي الحديث والقديم التي تؤكد عمق هذه العلاقات التي تجعل من السوريين والمصريين شعبا واحدا يعيش في بلدين قسمتهما مؤامرات الاستعمار وأعوانه، فهذا التاريخ ينبئنا بأن مصر وبلاد الشام وفي القلب منها سوريا كانتا في معظم الاحيان ضمن دولة واحدة تحكم تارة من القاهرة واخرى من دمشق .وحتى عندما فعل شيطان الاستعمار الغربي فعله وتم تقسيم العالم العربي وفقا لاتفاقية سايكس بيكو لاقطار ودول ودويلات، فان أول وحدة عربية في العصر الحديث كانت بين مصر وسورية التي توجت فترة المدة القومي في حقبة الخمسينات والستينات.
هذا التواصل التاريخي ربما يقدم تفسيرا لذلك التشابه الوجداني والمزاجي المدهش بين السوريين والمصريين ، ولا أدل على ذلك من أن محبي وعشاق أم كلثوم السوريين ربما يفوق عددهم من المصريين ولمن يريد ان يعرف فليذهب الى مقاهي دمشق القديمة ليجد أن أم كثلوم لاتزال تصدح بصوتها الرائع باغنياتها الخالدة ، وفي الوقت نفسه تجد أن عشاق فريد الاطرش له والمتحمسين له في مصر يفوق عددهم في سورية نفسها وهو أبن جبل الدروز السوري. لقد لامست عمق هذه العلاقة بنفسي عندما زرت سورية ووجدت من الحفاوة ودفء المشاعر من قبل الاشقاء السوريين لمجرد معرفتهم بانني مصري ، ما لم أجده في مكان آخر، والشىء نفسه تجده لدى المصريين الذين يعشقون اللهجة الشامية والطعام الشامي والجمال الشامي ايضا .
إن إستدعاء واقعة سليمان الحلبي وكليبر يبدو أمرا منطقيا وملحا في ظل ما يجري حاليا في سورية من قمع وتنكيل بالاحرار السوريين الذين يخوضون رحلة نضال باسلة ومشرفة لنيل حريتهم وإسترداد وطنهم ، لأن هذه الواقعة تظهر أن للسوريين دينا في أعناق أشقائهم المصريين ، وهو ما يبرر في إعتقادي السؤال الذي يطرحه أصدقائي السوريين همسا رقيقا تارة وعتبا غاضبا تارة اخرى : لماذا يخذلنا المصريون في ثورتنا ضد هذا النظام القمعي ؟ لماذا يسكتون ويتفرجون علينا بينما نذبح على يد مليشيات النظام وشبيحته وعصاباته الامنية؟ .يبدو هذاالسؤال مشروعا جدا ومقبولا تماما لان العتاب يكون على قدر المحبة ومشاعر الود ومن هنا أجدني متفهما ومستوعبا لهذا العتاب وذلك الشعور بالخذلان لدى قطاع كبير من الاشقاء السوريين وخصوصا النخبة من موقف مصر الثورة من نضالهم الراهن ضد الظلم والاستبداد.
هذا التفهم و ذلك القبول بتلك المشاعر العاتبة والغاضبة من قبل الاشقاء السوريين لا يعني الاتفاق مع ما يذهب اليه هولاء من أن ثورة مصر خذلت ثورة سورية، وأستطيع أن أقول بارتياح كامل أن لا يوجد مصري واحد على ارض المحروسة إلا ويساند السوريين في معركتهم الصعبة والباسلة في مواجهة رصاص القتلة والمستبدين من عصابات النظام .وهذا ما يمكن تملسه بجلاء لدى المصريين بمختلف طبقاتهم والوانهم السياسية والاجتماعية وهو تعاطف ينبع من الشعور بالواجب الوطني تجاه الاشقاء في سورية. لكن هل تكفي هذه المشاعر الصادقة لازالة الشعور بالخذلان لدى الاشقاء السوريين ؟ الاجابة بكل تأكيد هي النفي ، فاذا كان ذلك مقبولا من المواطنين العاديين وبسطاء الناس ،فانه ليس كذلك من جانب النشطاء السياسيين والنخبة المصرية ومختلف القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الاعلام التي لم تظهر حتى اللحظة الدعم اللازم المقنع لمساندة ثورة اشقائهم في سورية.صحيح جرت مظاهرات متكررة أمام السفارة السورية بالقاهرة تنديدا بالقمع الدموي للمتظاهرين السوريين ودعما واضحا للثوار ، لكنها بدت محدودة وغير متناسبة مع حجم الجرائم والفظائع التي ترتكب في هذا الجزء العزيز من وطننا العربي . وإلى جانب هذه المظاهرات فقد برزت عدة مواقف مساندة للثورة السورية من جانب نخبة من الكتاب والمثقفين الذين اتهموا اتحاد الكتاب ورئيسه بالتخاذل وعدم إتخاذ موقف حقيقي وقوي مما يجري في سوريا. كما أعلنت . أعلنت حركة ‘6 أبريل’ أحد القوى الأساسية التي مهدت لـ ‘ثورة 25 يناير’ في مصر دعمها للحركة الاحتجاجية في سورية ومطلبها برحيل الرئيس بشار الأسد. وأكدت تضامنها وجموع شباب الثورة والشعب المصري عامة مع ثورة الأشقاء الأحرار في سورية، ودعم انتفاضتهم السلمية في سبيل تحقيق كافة مطالبهم المشروعة.وإلى جانب ذلك كله فلاتخلو صحيفة مصرية من مقالات لكتاب وصحافيين تحمل تنديدا وإستنكارا لجرائم النظام السوري.
ولكن هل يكفي هذا ؟ بالتأكيد لا.. فكل أشكال الدعم تلك تبدو أقل كثيرا مما يجب أن يفعله نشطاء وثوار مصر وأقل مما يتوقعه الاشقاء السوريون من مصر الثورة، فدعم نضال السوريين لنيل حريتهم وتحديد مستقبلهم ، يبقى فرض عين وواجبا اخلاقيا قبل أن يكون التزاما سياسيا بدعم أحرار سورية لانه يشكل جوهره إستكمالا لرحلة الربيع العربي التي إنطلقت من تونس ومصر عبر مساندة أشقائهم في سورية ،لتكريس قيم الحرية والكرامة والمساواة التي غابت طويلا عن هذه المنطقة من العالم . وهنا يمكن الاعتراف بان ثمة تقصيرا قد وقع من جانب النخبة والثوار في مصر في دعمهم لثوار سورية ، لكنه تقصير لا يصل لحد الخيانة كما يحاول البعض ، فثمة فارق شاسع بين التقصير والخيانة في هذا المقام .
ثمة قائل بأن الثورة المصرية لم تستكمل رحلتها بعد وحجم الأخطار والتحديات المحدقة بها من الداخل والخارج ، ربما لا تتيح للقوى الثورية والسياسية الفرصة لالتقاط الانفاس وبالتالي مد يد المساندة والدعم للثورة في سوريا ، وهذا صحيح بالتأكيد لكنه لا يصمد كأساس لتبرير أي تقصير عن حشد كل أشكال الدعم للاشقاء السوريين لاستكمال رحلتهم نحو شواطىء الحرية. صحيح أن القوى الثورية في مصر تم إنهاكها عبر معارك حقيقية حينا ووهمية أحيانا بهدف منع الثورة من إستكمال مسيرتها ، وصحيح أن الأجواء الملبدة التي تعيشها مصر الثورة خلال هذه المرحلة الانتقالية وحالة القلق على مستقبل الثورة تدفع الكثيرين من النخبة والثوار للانكفاء على الداخل لمواجهة كل محاولات الالتفاف على الثورة أو إجهاضها، لكن ذلك لا يجب أن يكون مبررا للانشغال عما يجري في سورية أو عدم تقديم المساندة والدعم لانتفاضة أبنائها الأحرار. ليس فقط من أجل أنجاح الثورة السورية بل قبل ذلك لاستكمال الثورة المصرية والحفاظ عليها ، فكل شواهد التاريخ وصفحاته تعلمنا أن مصير هذين البلدين مرتبط ارتباطا عضويا وأن ما يجري في أي منهما سيكون له بالتأكيد انعكاساته العميقة على البلد الاخر. ومن هنا يصبح دعم الثورة السورية شعبيا وإعلاميا من جانب مختلف القوى الحية في مصر واجبا أخلاقيا والتزاما سياسيا لا يجب أن نحيد عنه مهما كان التحديات والعقبات الداخلية التي تعترض ثورتنا حاليا.فالشعب السوري الشقيق يستحق منا أكثر من مجرد التعاطف.
‘ كاتب مصري
القدس العربي