هل خان المثقف السوري دوره في المــجتمع؟…الأحداث أيقظت السؤال الغائب
ليلاس سويدان – ما إن بدأت كرة الاحتجاجات في سوريا تتدحرج وتكبر حتى بدأ التساؤل عن دور المثقف السوري مما يحدث. هذا المثقف الذي يعتبر البعض أن انسحابه من دوره في المجتمع المثقل بالقهر وأسباب التخلف كأكثر الشعوب العربية، خيانة غير مقبولة ممن يفترض أن يكون له دور في نقد هذا الواقع المريض، والانحياز للمواطن البسيط المغلوب على أمره، وربما كان يفترض أن يكون قائدا للحراك الاجتماعي. البعض رأى أن بيانات المثقفين تعبير عن مرحلة ما بعد الصدمة، وخطوة يراد بها اللحاق بالشعب الذي سبق المثقف بخطوات في هذه الأحداث.
حكم البابا : حضور دائم للمثقف السوري
لا ننكر أن الديمقراطية هي حاضن أساسي للثقافة، ولكن غيابها لا يبرر غياب دوره إلى هذا الحد في السنوات الماضية بالتحديد، ولا في الظرف الحالي الصعب. ولكي نكون منصفين فإن بعضهم وفي سنوات مضت قال كلمته ودفع الثمن غاليا. الآن وفي الظرف الاستثنائي الذي تمر به سوريا، والذي هو لحظة تاريخية كباقي اللحظات التي مرت بها سواء في سنوات التحرر من الاستعمار العثماني أو الفرنسي، أو اللحظات التي يتطلع فيها المجتمع إلى المثقف ليقوم بواجبه ودوره الإنقاذي، كيف يقيم المثقفون السوريون دور المثقف قبل وبعد ما يحدث اليوم؟
الأديبة ابتسام تريسي أرجعت تهميش وما أسمته بتدجين المثقف السوري لعدة أسباب شرحتها بقولها:
تحديداً قبل هذه الأزمة كان المثقف مهمشا بكلّ معنى الكلمة، لأنّ اتحاد الكتّاب العرب الذي يسيطر على الثقافة في سوريا، يفرز نماذج سيئة للمثقف وللكاتب، وأيضا وزارة الثقافة والإعلام. في المحصلة المؤسسات الفاسدة ستفرز بشكل أو بآخر مثقفا مدجناً لا صوت له، ولا يستطيع أن يكتب بحرية أو يكون فاعلاً في حركة تغيير المجتمع سواء أراد ذلك، أو كان جزءاً من تلك المنظومة الفاسدة
وهذا لا يعني عدم وجود كتّاب يتمتعون «بقسط» من التمرد، ويرفضون الاندماج في التيار العام للثقافة المدجنة المفروضة عبر قنوات الإعلام والمؤسسات، وهؤلاء لا تصل أصواتهم إلى الناس. طبعا بات السبب معروفا.
بعد الأزمة، وعن طريق الإعلام الحر «الانترنت» حدثت عملية فرز شرسة، صنّفت الأصوات المدافعة والمعارضة، وألبست الثقافة ثوباً سياسياً، رغماً عنها لكنّها بالتأكيد حالة صحية، أبرزت دور المثقف في حركة التغيير، فظهرت أصوات محايدة تدعو للحوار ومحاكمة الأمور بالمنطق، إلى جانب الأصوات التي تدعو للتغيير الجذري، أو المحافظة على الوضع كما هو والضرب بيد من حديد لوقف عملية التغيير.
نتعلم من الشباب
لا أشكّ أن البلبلة الحاصلة ستنعكس على الوضع العام للبلد، وأنّ لها آثارها السلبية، لكنّي متفائلة بعض الشيء بالحراك الثقافي، الذي سيثبت دوره الفاعل خلال المرحلة القادمة من تاريخ سوريا، ننظر بخجل إلى ما يفعله الشباب، ونتعلم منهم، لهذا أتمنّى أن نتخلص من الخوف، ونحتفظ «بحكمة الكهول» لنستطيع مواكبة ما يحدث
بكلّ صراحة ـ أحياناً أرى الأمور بطريقة سوداوية، لكنّي أخجل من الأمل في عيني ابني، من طريقة فهمه للواقع، من حماسه، من يقينه أنّ سوريا تستحق كل ما بذل في سبيلها من دم. حينها أتظاهر بالأمل، وأخفي خيبتي.
من ينقذ من؟
هل للمثقف العربي أصلا دور إنقاذي؟ أو أنه هو من يحتاج لإنقاذ فعلا كما قال الكاتب والمفكر محيي الدين اللاذقاني:
البحث عن الدور الانقاذي للمثقف في الأزمات «كليشيه عتيق» نسمعه في كل أزمة، ونحكي عنه مع معرفتنا العميقة ان المثقف بحاجة لمن ينقذه، حتى في أوقات الهدوء، فهو نفسه أسير مصطلحات ودور ادعاه لنفسه، ولم يستطع الرقي الى مستواه، لأنه استنام للشعارات والتنظير ولم يقم بما يكفي، كنظرائه الغربيين، لتحويل شعارات التنوير والتثوير والطليعية الى حقائق، بفعل الانخراط في الشأن العام، والانضمام لمشروع جماهيري فاعل، ينقذ الاوطان من المستبدين والفاسدين. ونتيجة لذلك ظل المثقف العربي «مطرب مقاه» يسمع نفسه ولا يجد لافكاره ونظرياته اي صدى لانه لم يقم بدوره الميداني الذي يحول الشعار الى ممارسة.
في ما يتعلق بالمثقف السوري في الازمة الاخيرة، لم نشاهد دورا مؤثرا للمثقفين في قيادة التظاهرات وتنظيمها وتوجيهها، فالمثقف السوري ظل خلف الوعي الشعبي الذي ثار على الظلم، وحتى من تشجع اكتفى كالعادة بالنضال عبر البيانات التي لا يقرأها الا الذين صاغوها، ومع التقدير لعامل الخوف، وهو مشروع في اوقات الدم وغيرها، فان فئة كبيرة من المثقفين السوريين ظلت أسيرة مصالحها المتواضعة التي اعطاها اياها النظام، مع انها من أبسط حقوقها وليست منة من النظام الدكتاتوري.
مشهد يتهدم
المشكلة في سوريا وغيرها ان السلطات روضت المثقفين قبل غيرهم، واستخدمتهم لتطويع غيرهم، فباستثناء قلة شجاعة قاومت ودخلت السجون، كانت الاغلبية تمارس دور البوق الرسمي، مستنيمة لدور غبي، ممل من دون ان تنتبه الى ان الدنيا تتغير، وأن جيلا جديدا يظهر بقوة كضوء البرق، وقوة الصاعقة، ليهدم المشهد على رؤوس الجميع بمن فيهم المثقفون.
وفي زمن لعبت فيه تكنولوجيا الانترنت دورا مركزيا في الثورة، كان المثقف بعيدا حتى عن هذا التطور في الادوات، فالاغلبية قليلة الخبرة والممارسة في هذا المجال، لذا لم يظهر خلال الثورة دور واضح وبارز للمثقف السوري، وهذا من مصلحة الثورة، فهناك كثر يريدون ركوب موجتها بغير مساهمة فيها، وهؤلاء هم من سيصدعون رؤوسنا غدا بالحديث عن دور لم يكن لهم، في مرحلة اهملتهم واثبتت أنهم، كنظام البعث، خارج التاريخ.
حاضر دائما
الكاتب والشاعر والسيناريست حكم البابا قال ان المثقف السوري لم يغب يوما عن كل الأحداث التي مرت بوطنه والوطن العربي، حتى وإن كان ذلك من خلال مجرد بيانات، لأن القبضة الأمنية أطبقت على سوريا لعقود، كان حاضراً في كل الأزمات والمنعطفات التي مرّت بها سورية، ابتداءً من بيان المثقفين الشهير عند مذبحة تل الزعتر في أواخر سبعينات القرن الماضي، إلى لقائهم العاصف مع أعضاء قيادة الجبهة الوطنية التقدمية أيام الصراع المسلح بين السلطة السورية والإخوان المسلمين، إلى بيانهم ضد فتوى الخميني بقتل سلمان رشدي، والذي أغضب السلطة السورية حينها، إلى بيانهم ضد المشاركة في التحالف الدولي للحرب على العراق، وصولاً إلى بيان الـ99 الشهير الذي جاء كإعلان لانطلاقة ربيع دمشق عام 2000، وما تلاه بعد هذا التاريخ من بيانات.
صحيح أن احتجاج المثقفين السوريين في كل المنعطفات التي مرت بها أمتهم لم يتجاوز البيانات وبعض المقالات في حالات خاصة، بسبب القبضة الأمنية التي حكمت سورية خلال نصف قرن تقريباً، إلاّ أن المثقفين لم يصمتوا على ما يحدث سواء في بلدهم أو في العالم من حولهم، وحاولوا ما أمكنهم تسجيل مواقف مشرّفة، من دون أن يدفعوا أثمانا كثيرة، فحتى تسلم الرئيس بشار الأسد السلطة عام 2000 كان المثقف يعاقب بالتضييق في عمله، وينقل إلى وظائف إدارية إذا كان صحافياً، أو يمنع عن الكتابة، أو يحجز جواز سفره.
ما بعد عام 2000
لكن وبعد عام 2000 تغيرت المعاملة وزج بمثقفين في السجن بسبب رأي سياسي أو لمجرد توقيعهم على بيان، وأنا أتحدث هنا في كل المراحل الزمنية التي ذكرتها، عن نخبة مسيسة كانت مهتمة بقضايا بلدها، في حين بقي السواد الأعظم من أعضاء اتحادي الكتاب والصحافيين في سوريا صامتين، إما بسبب خوف بعضهم من اتخاذ أي موقف درءاً لأي اصطدام مع السلطة، أو لأن بعضهم الآخر مرتبط بالسلطة ويعمل كبوق لها، من دون أن ننسى أن نظام الحكم البعثي حاول عبر مراحل حكمه تحطيم المثقفين الحقيقيين أصحاب المواقف، وتطعيم الجسم الثقافي بهامشيين يعملون لدى أجهزته الأمنية.
واليوم، ومع بدء الاحتجاجات الشعبية في سورية يغيب دور المثقف، باستثناء بعض الأصوات القليلة التي تواجه كمّاً كبيراً من تهم الخيانة، والارتباط بالخارج، لمجرد توقيع أصحابها على بيان يطالب بفك الحصار عن مدينة سورية، أو يتعاطف مع المتظاهرين المطالبين بالحرية والكرامة، وللأسف أن عمليات التخوين لهؤلاء المثقفين والفنانين الشرفاء تأتي من قبل زملائهم الذي يفرد لهم الإعلام السوري مساحات بث واسعة للقيام به، ويشجعهم على ذلك.
ليس لدي حق لأدين أو لأخوّن، كما يفعل الطرف الآخر بكل بساطة ومن دون أدنى إحساس بالمسؤولية، وأستطيع أن أتفهم صمت البعض بوجود أجهزة أمنية أوغلت في القمع والدم، ولا يهمها المثقف من غير المثقف، حين تختار ضحاياها، ولكني لا أستطيع أن أفهم هذه الحملة الشعواء التي يقودها فنانون ومثقفون للنيل من زملائهم وتخوينهم، وتخوين ثورة شعب، لمجرد الحصول على مكاسب مؤقتة، نظير مواقفهم التي لا تقل أذى عن القتل، لأن وصفها الأدق هو: الإعدام المعنوي للمثقفين والفنانين الشرفاء. وأظن أن ما نراه اليوم من حملة تطبيل وتزمير لأفعال السلطة، والهجوم على معارضيها من قبل هؤلاء المثقفين والفنانين، هو نتيجة عملية استغرقت أربعة عقود، لتفريغ الساحة الثقافية والفنية من المهتمين بالشأن العام، وحشوه بالذين يتعاملون مع الأدب والفن باعتبارهما مجرد صنعة وليس موقفاً من الحياة!
المواقف والانتماءات
الكاتب الدرامي والممثل المسرحي بسام جنيد، رأى أنه يجب بداية أن نعرف طبيعة الشعب السوري وثقافته قبل أن نتحدث عن أهمية دور المثقف بالنسبة له، فهو شعب مثقف بطبيعته، وعبر التاريخ هو شعب مدني بعيد نسبياً عن العنف. مطالبه واضحة لا تستحق سوى الاحترام، مطالب وطنية تتحدث عن لقمة عيش، ونبذ الفساد، وقليل من الحرية. كما أنه (الشعب السوري) شعب واع ويعرف ماذا يريد، وأهم ما يميزه أنه يعرف ما الذي لا يريده.
لذلك كسبا للوقت واحتراماً له لا بد من أن يتم الاستماع إليه دون أن يمطره المثقفون بالعظات.
وبالعودة إلى موضوع المثقف، من وجهة نظري فإنه يوجد في سوريا ثلاثة أصناف من المثقفين: مثقفون مع النظام، وهؤلاء مدعومون من وسائل الإعلام المحلية، ومثقفون ضد النظام، وهؤلاء مدعومون من وسائل الإعلام العربية والعالمية، ومثقفون مع الوطن وهؤلاء مغيبون إعلامياً، ويعيشون في الظل.
أعتقد أن التجربة القاسية التي مرت بها سوريا أوصلتنا إلى عدم جدوى الصنفين الأولين، فهما متمترسان في خنديقهما، ويعملان على زيادة الانقسام في الشارع، وعلى بث الكراهية عن قصد أو من دونه. كما أعتقد أن مشكلة هذين الصنفين تقتصر على تضخم الأنا الخاصة بكل منهم، وترفّعهما عن عامة الناس في الشارع، وبالتالي انعدام إمكانية سماع صوت وصدى هذا الشارع من أبراجهم العاجية (المتوهَّمة).
أما الصنف الثالث، فقد أثبت عبر نشاطه على صفحات الإنترنت وعبر عمله في الشارع مباشرةً مع الناس، أنه جدير بالثقة، وجدير بالاعتذار له من قبل الجميع على هذا التغييب الذى دام لأكثر من أربعين عاماً. وإن كان الوطن قد استطاع الخروج من المأزق، فيعود الفضل برأيي إلى الشعب السوري الذي تحدثنا عنه مسبقاً، وإلى هذا الصنف الثالث من المثقفين الحقيقيين.
مكارثية ثقافية
يقول الكاتب الدرامي بسام جنيد:
لا يخفى على أحد الضغط الذي تعرض له المثقف الوطني، الذي فصل نفسه أثناء المحنة عن ثنائية (النظام والمعارضة) وانضم إلى الوطن.
قد تعرّض لأسوأ أنواع المكارثية الثقافية، والغريب في هذه التجربة أن الضغط لم يأت عبر أجهزة الدولة فحسب، بل جاء من أماكن أخرى، وبيان شركات الإنتاج في سوريا خير دليل على ما أقول.
أعتقد على القيادة في سوريا أن تكثر في المرحلة المقبلة من الإصغاء للمثقفين الذين غيّبتهم، وأن تقلل من الإصغاء إلى طبقة المهللين المأجورين، لأنهم في الأزمات لا يجيدون التصرّف.