هل ستفصل جماعة «الإخوان» بين العملين السياسي والدعوي؟/ ماجد كيالي
ثمة ثلاثة توجّهات يمكن ملاحظتها في البيان الذي أصدرته جماعة «الإخوان المسلمين» في سورية (نشر على موقعها الرسمي يوم 13/9)، الأول، ويشي بنوع من مراجعة لمسيرتها وتجربتها وخطاباتها خلال الثورة. هكذا أكد البيان على التزام الجماعة: «بكلّ ما صدر عنها من مواثيق وعهود ورؤى مستقبلية… في ميثاق الشرف الوطني 2001، والمشروع السياسي لسورية المستقبل 2004. والعهد والميثاق 2012… من التمسّك بالدولة المدنية الديموقراطية التعدّدية، المبنيّة على قواعد المواطنة المتساوية وعلى دستور مدني يعبّر عن إرادة الأكثرية السياسية». ويأتي ضمن ذلك إدانة ورفض العنف «وسيلة لتحقيق الأهداف السياسية، مهما تكن غايتها ومشروعيتها»، و «نشر الوسطية والاعتدال، ومحاربة الغلوّ والتطرف، وما ينشأ عنهما من انحراف في الفكر والسلوك، المولّد لكلّ أشكال الإرهاب»، والسعي «إلى المزيد من الانفتاح على جميع القوى المجتمعية والسياسة الوطنية…» و «الحوار السياسي وسيلة أساسية لتحقيق الأهداف الوطنية العامة». وتأكيد أن الجماعة ستبذل كل جهودها لتحقيق هذه الأهداف «بعيداً من أيّ مشروع برامجي خاص».
اللافت أن البيان لا يشير إلى أسباب إزاحة مضامين هذه الوثائق عن الخطابات السائدة في الثورة، وتالياً صعود الخطابات المتطرفة والمتعصبة ذات الطابع الديني والطائفي في مكانها، ولا إلى سكوت «الإخوان» عن ذلك، في حين أنهم هم الطرف الأساسي الذي يتحمل مسؤولية التصدي للخطابات المذكورة، التي أضرت بصدقية ثورة السوريين، وصدقية «الإخوان» أنفسهم، وأضعفت إجماعات السوريين.
والثاني، يفيد بالتنصّل من المسؤولية عن المآلات التي وصلت إليها الثورة، بما في ذلك تحميل المسؤولية للخارج، او للدول الكبرى، في إصرارها وتواطؤها «لحرمان أبناء سورية من حقوقهم الإنسانية الأساسية… تحت عناوين وذرائع وادّعاءات، أهمّها الحرب على الإرهاب، وحماية ما يسمّى بالأقليات، والحفاظ على وحدة سورية أو حماية مؤسسات دولتها»، ما يتجلّى واضحاً في تغاضيها «عن تدفّق عشرات الألوف من قتلة الولي الفقيه… للمشاركة في قتل السوريين… وتمرير جرائم… استخدام الأسلحة المحرمة الدولية ضدّ مدنيين… في منع تسليح السوريين بأنظمة الدفاع الجوية التي تعينهم على حماية حياتهم، وفي رفض… إقامة منطقة عازلة آمنة، تثبّت المهجّرين على أرضهم، وبلغ الانحياز بالمجتمع الدولي أنّه أقرّ حصار ملايين السوريين في مدنهم وبلداتهم». بديهي أن المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية كبيرة في ما وصلت إليه حال سورية، لكن ذلك لا يعفي مكونات الثورة السورية، وبالأخص جماعة «الإخوان»، من حصّتها من المسؤولية عن هذه المآلات، وضمنه مسؤوليتها عن ضعف اجماعات السوريين، وتعذّر إيجاد كيان سياسي جمعي يحظى على رضاهم، هذا إضافة إلى تخبّط خطابات المعارضة مع مجاملتها لخطابات الجماعات الإسلامية المتطرفة، وأخيراً ارتهانها للمداخلات الخارجية على حساب سلامة مسار الثورة ومصالح شعبها.
والثالث، يوحي بالتعبير عن رفض تبعات الاتفاق الأميركي – الروسي، الذي حصل مؤخراً، وإعلان التبرؤ منه، ولعل هذا هو المغزى من إصدار بيان كهذا في هذه الظروف، وهو ما أفصح عنه البيان في نصه بأن الجماعة مع إيمانها بالحل السياسي العادل «تعلن رفضها الكامل للحلّ العسكري، الذي تعمل كلّ قوى الشرّ على فرضه على شعبنا من طريق الحصار والقصف والغزو الطائفي… وأمام ما تكشف من هذا التواطؤ الدوليّ على فرض هذا الحل العسكريّ، بصيغته (الروسية – الإيرانية)… تعلن جماعتنا أنّها لن تكون معبراً لجريمة تصفية الثورة، ولا جسراً تمرّر عليه الإرادات الشريرة، للروس والإيرانيين والمتواطئين معهم».
يستنتج من ذلك أن الجماعة لم تذهب في بيانها إلى حد مراجعة تجربتها في الثورة السورية، بطريقة نقدية ومسؤولة وصريحة، وهذا ما هو مطلوب وضروري منها ومن كل مكونات الثورة السياسية والعسكرية والمدنية، سيما المكونات المحسوبة على التيار الإسلامي المعتدل، لأن هذه المكونات هي التي طبعت الثورة بطابعها، من ناحية الخطابات والبنى وأشكال العمل والعلاقات الخارجية. هذا أولاً. ثانياً، قد يستنتج من هذا البيان ميلاً في الجماعة لمراجعة خياراتها، إذ نص أنها «ستدرس قرار انسحابها» من مؤسسات العمل الوطني، وأن جهودها ستظل متوافرة، على الأهداف الوطنية العامّة، بعيداً من أيّ مشروع برامجي خاص وأنّ كلّ المشاريع البرامجية الخاصة، ستظلّ مؤجلة حتى يتحقّق لشعبنا ما يصبو إليه. والمشكلة أن هذه العبارة لم تأتِ حاسمة كما لم توضح إذا كان هذا الخيار نتاج نضج سياسي، أو نتاج عقلية تحاول النأي بنفسها عن المسؤولية عن كل أو بعض ما حصل.
والخلاصة فإن البيان جاء قاصراً ولا يتضمن مراجعة جادة، لتجربة جماعة «الإخوان»، سيما هيمنتها، ولو غير المباشرة، على الكيانات السياسية الأهم (المجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني)، وعلى خطاباتها، ما أظهرها كجماعة فئوية تشتغل لذاتها وليس لمصلحة كل السوريين. والواقع فإن مسؤولية «الإخوان» هنا تتعلق تحديداً بعدم تمييزها نفسها عن الجماعات الإسلامية المتطرفة والإرهابية، أو سكوتها عنها، وعن ممارساتها التسلطية في المناطق التي خضعت لسيطرتها، وعدم تفنيدها لطروحات هذه الجماعات المتعلقة بالحاكمية والجاهلية والحدود والخلافة والولاء والبراء والحط من مكانة المرأة واستخدام العنف والإكراه لفرض تصوراتها على مجتمعات السوريين، ما أضر بصدقية الثورة السورية باعتبارها ثورة تحررية ديموقراطية ضد الاستبداد، على نحو ما جاء في وثيقة «العهد والميثاق» (إذار-مارس 2012)، التي استقبلت بحفاوة كبيرة في أوساط المعارضة السورية وقت إصدارها. والمشكلة أن ثمة بين الإخوان من تصرف وفق اعتقاد متسرع وخاطئ مفاده أن ما تقوم به الجماعات المتطرفة قد يفيد التيار الإسلامي، أو يصبّ في مصلحته، وأنه يمكن لـ «الإخوان» الاستثمار في هذه الجماعات، بيد أن التجربة بينت أن هذا النهج ازاح جماعة «الإخوان»، وأضعف شرعية التيار الإسلامي المعتدل.
على ذلك أمام جماعة «الإخوان» طريقان: إما الاستمرار على الطريق ذاته، وهو لن يوصل إلى مكان، وسيضر بهم، على نحو ما حصل في مصر، مثلاً، وإما التصالح مع الواقع والعصر والعالم، والاسترشاد بالتجربة الإسلامية في تونس والمغرب وتركيا وإندونيسيا وماليزيا، بتحرير الدين من الدولة والسلطة وتحرير الدولة والسلطة من الدين، والتمييز بين الديني والدنيوي وبين الشريعة والشرعية، في علاقات البشر السياسية، والتحول إلى حزب سياسي بمعنى الكلمة، يهتم بمصالح الناس وارتقائهم في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وبقيم الحرية والعدل والمساواة. فهل ستفصل جماعة «الإخوان» بين العمل الدعوي والسياسي؟ أم ما هي القصة؟
* كاتب فلسطيني – سوري
الحياة