هل ستُهزَم نظرية المؤامرة في معركة الثورات العربية
فراس قصاص
لا تزال نظرية المؤامرة بوصفها أداة في التحليل والمقاربة، معتمدة وشغالة وإن بدرجات مختلفة ومتفاوتة في معظم المجتمعات البشرية، فهي حاضرة لدى بعض تلك المجتمعات، بصفتها عصبا رئيسيا في عمليات التعاطي والتفكير والتحليل، وبدرجة أقل رئيسية وفاعلية في بعضها الآخر. الثابت أنها لم تفقد إغراءها بالرغم من تهافتها وضعف منطقها الداخلي وهشاشة الموضوعية المتحصلة من استخدامها. فما هي نظرية المؤامرة؟ وما هي المحددات التي تجعلها منتشرة في مجتمعات بعينها بنسبة تفوق سواها؟ وهل ستنهزم نظرية المؤامرة في الواقع العربي بعد الثورات العربية التي يشهدها عالمنا العربي؟، تلك هي الأسئلة التي تود هذه المقالة الإجابة عليها باختصار.
يمكن ضبط مفهوم نظرية المؤامرة وفقا لكونها القراءة التي تؤكد على وجود افتراق كبير يصل حد التناقض، بين ما ترصده الحواس وتلامسه من حدث ما يقدم نفسه لها من خلال حدوثه، وبين حقيقة الحدث وصورته الواقعية، هي قراءة تكرس الانفصال التام بين الشكل الذي يقدم فيه الحدث نفسه، وبين مضمون الحدث وجوهره، وتفترض التضاد بين بنية الحدث وبيئته، مقدماته وأسبابه، وبين تقديمه لنفسه وحدوثه وفقا لشاكلة معينة.
نظرية المؤامرة هي منهجية تحليلية دائما ما تفسر العالم انطلاقا من وجود مؤامرة لا تشير الحيثيات ووسائل التحقق التجريبية إلى وجودها، ضعف نظرية المؤامرة وختلها في الوصول إلى الواقع تحليلا وتفسيرا والاقتراب منه ما أمكن، لا يشكل نفيا لفكرة المؤامرة ووجودها، هي موجودة بالفعل، لكن ليس دائما أو غالبا، و يجب لإثبات وجودها الالتزام بأدوات تحليلية علمية رصينة واتباع طرق وأدوات استدلالية ومنطقية تؤكدها نوافذ الوعي، الحواس ولا تنفيها. مولدات عديدة تدفع نحو اللجوء إلى نظرية المؤامرة في مقاربة الواقع وأحداثه وتحليلها، منها الانطلاق الرغائبي في عملية التحليل، أي إخضاع قراءة الواقع للرغبة في الوصول إلى نتيجة معينة، تعكس إيمانا أو حاجة أو وسيلة للدفاع عن الذات المحللة والقارئة، ومنها الكسل المعرفي والاستسهال، فالواقع صعب ومعقد ولا يقدم نفسه بسهولة، وعملية التحليل ذاتها، تتطلب إلماما وصبرا وإعمال للعقل وتملكا لأدوات تحليلية وقدرة على التجرد من الموقع والمصالح ما أمكن. يرتفع منسوب شعبية نظرية المؤامرة، استخداما وقبولا، بحسب المنهجية النافذة في الوعي المعرفي لمجتمع ما، فالمجتمعات التي انتصرت فيها المنهجية العقلانية الحديثة أسلوبا للعلاقة مع الواقع والعالم قراءة وتفاعلا، المجتمعات التي تتقدم فيها العلوم التجريبية وتأخذ بأسباب العلم في حياتها الخاصة والعامة، والمجتمعات التي تنعم بالديمقراطية وتثق بقدرتها على تحديد مستقبلها وتوجيهه على النحو الذي تريد، تتضاءل فيها كثيرا نسبة القائلين والعاملين وفقا لنظرية المؤامرة، لكنها لا تختفي تماما، ولا يمكن لها أن تختفي في أي مجتمع، فالوهم والرغبة والضعف والكسل المعرفي، وهي عوامل تدفع إلى الأخذ بتلك النظرية، سمات أنتروبولوجية موجودة حيث يوجد الإنسان ويعيش. أما المجتمعات التي لا تزال بعيدة عن قراءة عالمها بالاستناد إلى مقولات العلم وحقائقه، والتي تعيش استلابا ذو هيئة سياسية أو اقتصادية فهي مجتمـــعات أغلبيـــتها أقرب في قبولها، للتحليل وفـــقا لنظرية المؤامرة وتبعا لنتائج تطبيقها.
نظرية المؤامرة وعلى الرغم من تعرضها لتداول الألسن والأقلام نقدا في مرات كثيرة، إلا أنها لا تزال وحتى وقت قريب، محافظة على أساسيتها وتلقائية استحضارها في معظم قراءات الإنسان العربي أثناء مواجهته أي حدث أو تطور أو وضع أو معطى، النجاح الذي كانت تلقاه هذه النظرية في العالم العربي، ظل من اكبر النجاحات التي حققتها في أي مكان من العالم، لاعتبارات وأسباب كثيرة، منها ما هو ذاتي ومتعلق بالذات المعرفية العربية التي بقيت دون أفق النهضة والتحديث، ومنها ما هو موضوعي، وينشد إلى الواقع العملي واليومي الذي يعيشه الإنسان العربي، سماته السياسية والاجتماعية، واقع الاستبداد والتعمية والإفقار والتضليل السياسي والأيديولوجي والإعلامي الذي يرهقه ويقمعه ويستهلك ملكاته وطاقته.
فهل تنجح الثورات العربية السلمية الأخيرة بعد صناعتها الذاتية لواقعها وإبداعها الخلاق لأدواتها، وتحديها في انتاجها لمستقبلها وحياتها لمصالح قوى اقليمــــية ودولية نافذة ونجاحها في ذلك، هل ستنجح في التأسيس لمنطق جديد آخر في المنطقة العربية والشارع العربي، يضعف إلى حد بعيد من رواج منطق المؤامرة بوصفها نظرية للتفسير وأرضية للتفاعل مع الذات والعالم؟ سؤال ليس صعبا الجواب عليه بنعم، ففي منطق الثورات العربية الداخلي ثقة طاغية بالذات ودينـــامية كفيلة بتحقيق ما كان في الأمس القريب معجزات حقيقية، ذلك المنطق يتناقض مع المنطق العاجز الذي تبتني عليه نظرية المؤامرة في أي مجتمع وتشتغل، فالمنطقة العربية التي تعيش مخاضها التاريخي هذه الأيام ستكون منطقة واثقة بنفسها ومشاركة في صناعة الحضارة الإنسانية في المستقبل. وهذا ما ينتظره العربي ويتطلع إليه بكل تأكيد.
‘ كاتب وناشط سوري – برلين
القدس العربي