هل سلفيو داعش بشر مثل كل البشر؟/ ياسين الحاج صالح
هل نحتاج إلى مناهج ومفاهيم خاصة لدراسة الإسلاميين، بخاصة التيارات السلفية الجهادية، من القاعدة إلى جبهة النصرة إلى داعش؟ هل هناك خصوصية لهذه التنظيمات لا تحيط بها المناهج التي بلورتها الإنسانيات لدراسة الظاهر الاجتماعية والتاريخية، الاقتصاد والسياسة والسوسيولوجية والسيكولوجية وغيرها؟ هل ما يحول دون فهم داعش وأخواتها هو صعوبات عملية فحسب، تتمثل في أنه يصعب على مزودين بالمناهج المذكورة العيش في ظل داعش والخصوم على المعلومات المناسبة، أم أن الصعوبة مبدئية، تتمثل في لا تناسب أبستمولوجي جوهري بين هذه الأدوات وبين الظاهرة السلفية الجهادية؟ وربما الإسلامية عموما؟ وهل مرد ذلك، إن صح، خصوصية متأصلة في هذه التكوينات السياسية الدينية، أو ربما خصوصية إسلامية؟ أم إلى انفصال اجتماعي بين عالم الإسلاميين، والسلفيين بخاصة، وعالم الدارسين العلمانيين: الأولون لا يدرسون أنفسهم دراسة عامة، ولا يقبلون الموقف الفكري المؤسس لها، نزع الخصوصية والامتياز عن الذات؛ والأخيرون لا يعرفون عوالم الأولين، ولا يستطيعون قول ما يتجاوز عموميات عنهم؟ وباختصار، هل المسألة اجتماعية أم معرفية؟
ليس هناك نقاش جدي لهذه القضية المهمة في حدود ما أعلم. لكن مزيج الاستغراب والنفور الشديدين اللذين تواجه بهما تكوينات الإسلاميين المذكورة يعطي الانطباع بأننا حيال كائنات خاصة، لا سبيل إلى فهمها أو شرح نظمها وأفعالها بالطريقة التي تشرح بها أي نظم وأفعال بشرية. وهي بالفعل تقوم بأفعال فظيعة، وبأسلوب احتفالي، لا يصدم الحس الإنساني وحده، ولا يقوض إمكانية التماهي والفهم وحدهما، وإنما يثير في النفس الرغبة الفورية بإبادة هؤلاء القتلة.
لكن إن كنا نجد نازع الإبادة في نفوسنا، فهل يكون مدهشا بهذا القدر عند غيرنا؟ وهل ما يزلزلنا في أفعال الذبح والصلب والسحل هو غرابتها، أم بالأحرى قربها منا؟ امتناعها أم انتقالها الميسور إلى حيز الواقع؟ أجنبية الدواعش التامة أم كونهم من معارفنا تقريبا؟ تميزهم بالفظاعة أم شراكتنا فيها؟ لعل هذا الالتباس والغموض، المساحة المضببة بين نحن وهم، يفاقمها قرب زمني (كنا هناك قبل قليل) يتحدى التصديق. لا يصلح تعذر التماهي مع قتلة على إنكار وحدة الهوية البشرية، والقتل فعل بشري بامتياز، بل معرف للهوية البشرية. فروق أساليب القتل لا تصنع هوية أخرى أو نوعا مغايرا من الكائنات.
هذا للقول إن داعش استعداد إنساني، وقد لا تكون مسارعتنا إلى نفيها إلى أرض الغرابة المطلقة غير رغبة متنكرة في الإبادة، أو طلبا للامتياز على الأقل. من شأن الإقرار بعمومية داعش، بالمقابل، أن توجه نحو محاسبة أقسى للنفس والعالم.
المؤدى النهائي للنقاش حول عمومية الظواهر الإسلامية أو خصوصيتها هو: هل يُفهم الإسلاميون بالعقل الشامل، «اليونيفرسالي»، الذي تفهم به المجتمعات الأخرى؟ وهل هم أناس مثل كل الناس، ليسو أقل، لكن ليسوا أكثر أيضا؟ وهل عقولهم مثل عقول الناس، ولا تواجه عقول المهتمين من الناس صعوبة خاصة في التواصل معه؟ فإذ كانت الإجابة بالنفي، وهذا جواب الإسلاميين ذاتهم، كانت العلاقة المبدئية بين المجموعتين إما ترتيبهما بحيث تكون المجموعة الإسلامية سيدة والآخرون تابعون، أو إجبار غير الإسلاميين على دين الإسلاميين وإلا قتلهم. والنهج الصحيح والعادل في هذه الحالة مواجهة هذا التكوين اللاإنساني الراغب بالقضاء على غيره بالقوة.
لكن إذا كان صحيحا وعادلا دوما وجوب المواجهة بالقوة لمن ينصب اعتراضه على وجود الغير بالذات، وليس على ما قد يفعل الغير، بحيث يكون وجود علمانيين أو لا إسلاميين أو لا مسلمين جريمة مستحقة للقتل أو التمييز الفادح؛ إذا كان هذا صحيحا وعادلا، وبالتالي واجبا، فإنه لا يصح الاكتفاء بهذا النهج في مواجهة هذه التكوينات العنصرية. لا بد فيما نرى من مواجهة العنصرية على أرضية أبستمولوجية أولا تظهر صلاحية العقل اليونيفرسالي لشرح داعش والإسلاميين عموما، وعلى أرضية اجتماعية ثانيا تقرر المساواة بين الناس وتقاوم التراتب والتمييز، فوق المواجهة بالقوة.
أتكلم على تكوينات عنصرية لأنها تميز في المرتبة البشرية بين الناس وفقا لعقائدهم أو أصولهم، مثلما كان يفعل البيض في أمريكا وجنوب أفريقيا ضد السود، ومثلما عامل النازيون اليهود، ويعامل الصهيونيون الإسرائيليون الفلسطينيين. داعش، والمجموعات السلفية الأخرى التي تعتنق «ديانة الولاء والبراء» بعبارة أبو محمد العدناني مجموعات عنصرية، تستحق التجريم العام. أبستمولوجيا داعش تقوم على عقيدة الفسطاطين المشتقة من تلك الديانة، وهي تقرر «تفاصلا» مطلقا بين هم ونحن، يخفض من قيمة الشراكة البشرية إلى أقصى حد. لا يغير من ذلك أن ركيزة عنصرية داعش والسلفيين الجهاديين ليست اللون والعرق، بل الدين والإيديولوجية، أو الفوراق الثقافية الاجتماعية. المهم أن داعش تقرر أن عقلها أرفع واقدس من عقل غيرها، وتبيح هدر عقل ودم الغير على هذا الأساس. الواقع أن العنصرية السلفية الجهادية تضاهي النازية الألمانية من حيث أنها عنصرية نشطة وعدوانية، لا تكتفي بالتمييز مثل العنصرية الأمريكية قبل حركة الحقوق المدنية في ستينات القرن العشرين، بل تجمع بين الامتياز لنفسها والإبادة لغيرها. هي من هذا الباب قوى واجبة المحاربة.
لكن لا تستقيم مواجهة العنصرية بالعنصرية، على نحو يستخلص من مواقف قطاعات واسعة من الرأي العام في الغرب، ووسائل الإعلام الغربية، وكثيرون في مجالنا أيضا. في اجتهادها لحبس الظواهر الإسلامية، دون الاقتصار على داعش والسلفية الجهادية، في إطار الغرابة التامة والخصوصية المطلقة، ما تمارسه هذه القطاعات هو بالضبط العنصرية ونفي الشراكة البشرية. مشكلتنا، الديمقراطيين والعلمانيين التحرريين السوريين حيال الغرب، أنه يواجه داعش بمنطق أقل تحررية، تتراجع فيه العناصر الديمقراطية ومبادئ العدالة، حتى من منطق مواجهة النازية قبل ثلاثة أرباع القرن (كان ذلك زمن الاستعمار، وفي حدود ما أعلم لم يجر ربط بين الاستعمار والنازية، وتقصي الجذور الأخلاقية للثانية في الأول). أصلا لا تحاول القوى الغربية، والأمريكيون، قول شيء عن قيم الحرية والديمقراطية والعدالة في سياق الحملة الجارية ضد داعش في سوريا والعراق. وقطاعات ليست ضيقة من الرأي العام في الغرب لا تفهم، ولا تريد أن تفهم، شيئا عن جذور الظاهرة الداعشية. جل ما يريدونه هو «الاستقرار»، وهو يعني بقاء الأوضاع القديمة من جهة، واستقرار عوالمهم الذهنية الخاملة والمفعمة بالتحامل من جهة ثانية. هذا استسلام تام، وسيكون وخيم العواقب، أمام هيمنة نخب سلطة تزداد ضحالة في الغرب بينما يزداد العالم تعقيدا وتشابكا.
الرد على العنصرية يتأسس أبستمولوجيا على نقد وتفكيك الخصوصية، المنسوبة للإسلام بخاصة، وعلى نحو مخصوص في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة. مقاومة العنصرية في السياسة والقانون تبقى واهنة دون ذلك. كان نقد الاستشراق مهما من هذه الزاوية بالذات، من حيث تقويضه الزعم بأن هناك بشرية خاصة، هي المسلمون، خصوصيتها تتركز في دينها، ويلزم عقل خاص لدراستها، ليس هو مناهج الإنسانيات التي تطورت في الغرب لدراسة الغرب. لكن نقد الاستشراق نال من الخصوصية السلبية فقط لمجتمعات المسلمين (القول إنهم أسوأ من غيرهم)، واستخدم لتأكيد خصوصية إيجابية لهم في ديار المسلمين (أحسن من غيرهم)، أو للقول إن كل ما يقال من سلبيات عن المسلمين ليس غير نتاج لمنهج مغرض، الاستشراق، وحملات تشويه متعمدة.
هذا غير صحيح بالطبع. بل هو يعفي العنصرية الإسلامية من النقد بذريعة العنصرية الغربية. يلزم نقد العنصريتين بالتواقت وعلى حد سواء، بقدر ما إن الواحدة منهما لا تنفصل عن الأخرى. بيد أن التقويض الأبستمولوجي للعنصرية لا يوجب الدفاع عن عمومية كسولة، تصادر على صلاحية فورية لمناهج الإنسانيات لمقاربة الظاهرات الإسلامية وفهمها. هذه المناهج نشأت وتطورت في سياقات بعينها وفي مواجهة شكلات عينية، غربية عموما، وهي في تحد مستمر لصلاحيتها في سياقات وفي مواجهة مشكلات مغايرة. نفيد الغرب نفسه، ونفيد مجتمعاتنا قبله، بأن نعيد النظر في هذه المناهج ونطور مفاهيم وأدوات جديدة لها.
لا نستطيع دون ذلك أن نتمكن من حل داعش أو إذابتها في الفكر، أعني أن نكشف عادية وابتذال تطلعاتها ومحركاتها، وبالأمثلة والتفاصل والمعلومات الموثوقة، كخطوة للتمكن من حلها في الواقع ونزع سحرها.
٭ كاتب سوري