صفحات مميزةميشيل كيلو

هل سينجح «المنبر الديموقراطي»؟


ميشيل كيلو

منذ مؤتمره الذي عقـده بين يومي 13 و16 من شهر آذار الماضي في القــاهرة، لا يفارق عقلي السؤال الرئيس التالي: هل سينجح «المنبر الديموقراطي السوري» في ما وعد به من عمل عـقلاني ودور وظيفي يخدمان القضية السورية معارضة وحراكا وشعبا، وتقديم رؤى وأفكار وبدائل تعبر عن جوامـع مشـتركة ـ لا خلاف عليها – تعين الثورة السورية على مواجهة النظام بقواها الموحدة، وعلى تصعــيد نضـالها تصعيدا مدروسا ومنهجيا يقلب ميزان القوى بينها وبينه، ويحقق الشروط الضرورية لقيام سوريا الديموقراطية، التي يستشهد أبناء الشعب اليوم في سبيل بلوغها؟

ومع أن قيـادة «المـنبر» المنتـخبة لم تفـعل الكـثير إلى اليوم، بعد انقضاء قرابة شهر على مؤتمره، ولم تترجم الأوراق المهمة التي أقرتها ورشـات عمـله الثماني، وكان مقررا أن تكون كل ورقة منها دليل عمل تعتمده وتترجمه في الواقع، وفي هذا التقصير ما فيه من دلالات، فإن الأمر الذي سيتوقف عليه مستقبل «المنبر» وحتى وجوده هو التالي: هل سيشكل عمله نقلة في العمل الوطني العام يلاحظها ابناء الشعب ويتفاعلون بإيجابية معها ضمن الظرف التاريخي السـوري الراهن؟ إذا شكل المنبر مثل هذه النقلة، صار من دون أي شك قوة راهنة ومستقبلية يحسب لها حساب، لأسباب سأشرحها بعد قليل. أما إذا كان سيعمل بالطريقة التقلـيدية التي تعمل بها قـوى المعارضـة الأخـرى، فأنا ابشره منذ الآن بمصير يشبه مصيرها، جوهره خروجه من الحياة العامة، وإن بقيت بعض هياكله التنظيمية وبعض الأصوات المتفرقة التي تتحدث باسمه وعنه .

والآن، بماذا يختلف «المنبر» عن غيره، وكيف يجب أن يوظف اختلافه في حياة بلادنا العامة، ليحقق النقلة المنتظرة ؟.

يضم «المنبر» بين صفوفه معظم رموز ونشطاء ومثففي «الحراك المدني السوري» الذي نشأ بعد العام 2000، وانتظم معظمهم في «لجان إحياء المجتمع المدني»، التي لعبت دورا مشهودا في تأصيل وعي سياسي جديد في سوريا، وتلمس أساليب وطرق جديدة للعمل العام قامت على فكرتين جوهريتين: أن السياسة في بلادنا إما أن تكون فاعلية مجتمعية مباشرة أو أنها لا تكون سياسة، بالنظر إلى هزال وضعف المعارضة ومحدودية وجودها وامكاناتها، التي تمنعها من استنهاض حراك حزبي جدي، ناهيك عن حراك شعبي منظم. من أجل أن تكون السياسة فاعلية مجتمعية مباشرة، تختلف عن ذلك النشاط السياسي الذي له مرجعية حزبية أو نخبوية أو برنامجية من نمط أحزاب النموذج اللينيني الشديد التراتب، يجب أن يقتصر برنامجها على بنود قليلة يتفرع عنها كل برنامج، تتفرع هي نفسها عن فكرة جامعة هي الحرية: حرية الفرد وحرية المجتمع. هذا البرنامج لا يحتاج المواطن كي يعتنقه ويطبقه إلى مرجعية، بل يكون هو مرجعية ذاته، لأنه هو من يستطيع أكثر من أي طرف آخر تحديد دوره في نيل حريته، بما انه أكثر من يعرف أوضاعه وظروفه وقدراته، ولأن الحرية كمطلب وكفكرة تخترق طموحات وآمال جميع المواطنين، لكونها الشيء الرئيس الذي يفتقرون إليه ويرتبط بإحرازه تحــقيق أي مطــلب آخر لديهم. إذا ما أضفنا إلى هذا حقيقة فائقــة الاهمية، هي ان حرية المواطن تمثل قاسما مشـتركا اعظم يجمعه بغيره، علمنا أن النضال في سبيلها لن يكون مسألة محض فردية، حتى إن اقتصر على أفراد، بل يخترق وجود جميع المواطنين، فالحرية ليست في بلدان الاستبداد قضية فردية أو قضية أفراد، بل هي جامع وطني ومجتمعي أعظم لا سبيل إلى إحرازه خارج إطار الجماعة الوطنية بجميع مكوناتهـا. من هـنا، تجعل المطالبة العامة بالحرية، أي شأن فردي خاص، شأنا عاما، وأي شأن عام شأننا خاصا، وتقيم تطابقا ممكنا بين الفرد وبين الجماعة الوطنية، يصير تطابقا فعليا وعمليا بمرور الوقت، عندئذ تغدو الحرية نقطة تقاطع سياسية ذات طبيعة برنامجية، وإن لم تكن برنامجيتها من المعنى السياسي التقليدي.

بوعي المواطن التطابق بين شأنه الخاص والشأن العام، تزول الفواصل التي تعزله عن الجماعة، وعلى رأسها خوفه الاستبداد، ويصير حالا ثورية قابلة للانفجار، بينما تنسجم الجماعة الوطنية ذاتها مع شؤون الخواص المنتمين إليها وتصير جماعة ثورية بدورها. بالتقاء الحرية الفردية مع طابعها المجـتمعي وتوقف تحقيـقها عليه، تنضج أجواء ثورة من نمط جديد، وإن افتقرت في البداية إلى قيادة وتنظيم بالمعنى الحزبي، وحـدثت خارج أي تنظيم أو حزب. هذا يفسر لماذا تأخذ الثـورة شكل انفجار مجتمعي شديد الغضب، مباغت في حجمه وتصميمه، ولماذا يعتبر المثقفون العضويون، ممن ارتبطوا بهذا النسق السياسي غير الحزبي، رموزا شعبية ومجتمعية. إنهم مثله لا يملكون تنظيما وإن كان عملهم منظما، وليس لديهم مرجعية، مع ان كثيرين يرون فيهم مرجعية لهم، وليس عندهم مطلب غير الحرية في بعدها الفردي الذي يجعله الاستبداد بعدا عاما.

في «المنـبر الديموقراطي السـوري»، التقى معظم هـؤلاء المثقـفين، الذين قدمـوا صياغات فكـرية وإجرائية أرهصت للثورة التي وقعت بدءا من نهاية العام 2010 وتكثفت العام 2011 في كل من تونس ومصر، وصولا إلى سوريا، مع شابات وشباب من المجتمعين المدني والاهلي، لإقامة تشكيل جديد ومغاير تنظيميا للنسق الحزبي التقليدي في تنظيمه، ومغاير له في برنامجه، الذي يضم مطلبا واحدا تلخصه كلمة واحدة هي: الحرية، كما في حامله : الفرد الذي تنبع مجتمعيته من تماثل مطالبته بحريته مع مطالبة المجتمع بحرية كل فرد فيه وبحريته هو نفسه، ولا تنبع من كون حاملها طبقة أو جماعة أو طائفة أو تحالفاً سياسياً واجتماعياً قائماً أو محتملاً… الخ. إن حامل الثورة في نظام الاستبداد الشمولي هو مجتمع الأفراد أو المواطنين الأحرار بأسره، فالاستبداد علمنا قيمة الحرية وعلمنا أنه لا يسقطه أي فصيل بمفرده، وأي تجمع يضم أحزابا هزيلة كالأحزاب القائمة بالفعل في سوريا، ولا يسقطه أي برنامج تقليدي، لأن البرامج التقليدية حزبية وتثير الخلاف مع أطراف معارضة أخرى، وتسقطه وحدة الفرد والجماعية وتطابقهما حيال برنامج لا خلاف عليه ولا يمكن لأحد رفضه هو الحرية، التي ستتم ترجمتها بعد الأنتصار إلى برامج متشعبة وتطبيقية، بما أن الحرية تكون تطبيقية أو أنها لا تكون حرية.

في هذا الالتقاء بين مثقفي المجتمع المدني والشباب، كمنت خصوصية وفرادة «المنبر»، بمقارنته مع غيره من القوى القائمة في الساحة. صحيح أنه يوجد مثقف هنا ومثقف هناك في كل حزب وتنظيم، وأن هناك بهذا القدر أو ذاك عناصر من القاع الشعبي المتحرك في جميع تكوينات المعارضة، لكن المنبر ينفرد عن غيره بأنه يجمع الجهة التي حملت ثقافة المجتمع المدني إلى الساحة السورية، وأدخلت إليها منظومة مفاهيم جديدة ومتكاملة لم تلتقطها أحزاب هذه الساحة التاريخية ولم تفد منها بشكل جدي، سواء في نظرتها أم في تنظيماتها وعلاقاتها،بل استمرت في إسناد مفاهيمها وبرامجها على الطبقة أو الجماعة أو الطائفة أو العرق أو الأمة… الخ، وواصلت التوجه نحو السلطة باعتبارها محل إنتاج السياسة في الدولة، بينما قامت فكرة المجتمع المدني على المواطن الحر وتوجهت نحو مجتمع المواطنين، الذي صار مكانا جديدا ومختلف الإنتاج الفاعلية السياسية بما هي نشاط عملي وممارسة ثورية.

وبالنظر إلى أن الحراك المجتــمعي عــرف، بتـأثير من الأحزاب السياسية عامة والإسلاميــة منهــا خاصة، انزياحـا خطـيرا عن مقصده الرئـيس: الحرية، وفقد الكثـير من طابعه السلمي الذي كان شـرط انتـصاره في نظـر مثـقفي المجتـمع المدني، ومن مجتمعيته بوصفها حامله الوحـيد الـقادر علـى تحقيق انتصاره، فإنه ـ اي الحراك ـ بقي دون تعبير سياسي يمثله، في حين اعجــزه القمع معـطوفا على قلـة الخـبرة عن بلــورة مثــل هذا التعــبير، فــقد كان من الحتمي أن يقوم من الآن فصاعدا طرف ما بمساعدته على بلورة صياغة سياســية تمـثل طموحه: الحرية، ووضع منظم أو تنظيمي يجسد هويته ويقوده.

هل سيقوم «المنبر» بهذه المهمة وهل سيتمكن من وعيها وإنجازها، فيكون منبرا ديموقراطيا سوريا بالقول والفعل، أم انه سيعمل بالوسائل التي تستخدمها احزاب الساحة وبالآليات التي تطبقها والأهداف التي تلاحقا ،وأقامت بينها هوة لا سبيل إلى تجــاوزها، رغم ما بينها من اتفاق أو توافق في الظـاهر؟ هذه هي المعضلة التي يجب على «المنبر» التصدي لها، دون المس بوضعه ككيان غير حزبي يرفـض أن يكون تنظـيما، رغم أن عليه العمل بشكل عقلاني منظم، وان ينشط كجهة أيديولوجية أو طبقية أو طائفية أو جهوية أو اتنــية، كما يرفـض أن يتخـلى عن جدليـة المواطن الحر / الجماعة الوطنية كجماعة مواطنين احرار، وسيتشتغل على أرضية الحرية الجامعة، ليكون اولا موقع تواصل مفتوح وتفاعل مبدع وتكامــل ضروري بين أطراف الشأن العام جميعها (التي لا بد أن يكون المواطن الحر منطلقها ومآلها)، بما في ذلك الأحزاب السياسية والتجمعات الأهلية والتنظيمات المدنية، ويضع ثانيا اسسا قيـمية وعملية تكــبح خلافاتها، التي تعتبر جميعها ثانوية مهما كانت عمـيقة ونوعية، ما دام التـناقض الرئيـس بينها مجتــمعة وبين النظام، ويوحد ثالثا القاع المجتمعي على مشتركات لا خلاف عليها ،لأن انتصاره يتوقف على وحدته، واستعادة سلميته، وطابعه الوطنـي العـابر لأية مصالح جزئية أو خاصة، وقدرته على استعادة من خرجوا من الشارع إليه، وإقناع المحايدين بأن انضمامهم إلى الثورة هو مصلحة حياتية لهم، وأن ما تزرعه السلطة في قلوبهم من مخاوف يضعهم اليوم خارج الإرادة الشعبية وغدا تحت رحمة نظام كسر مجتمعهم، هم بالنسبة إليه خصوم وأعداء مؤجلون وليسوا حلفاء صامتين، بشهادة كبار مسؤوليه الذين رفضوا موقف الحياد واعتبروه ضدهم وقالوا إنهم سيتعاملون معه كما يتعاملون مع موقف مناهضيهم في الشارع.

بقول آخر: بوحدة قاع الحراك المجتمعي، التي ليست بالضرورة وحدة انصهارية تدمج تنسيقياته في تنظيم واحد، تنشأ لأول مرة شروط جدية لتـبلور تعبير سياسي موحد عنه، لا يجوز أن يكـون هـناك أي تهاون في تطويره، ما دامت وحدته تضمن الظروف اللازمة لتوحيد مواقف التعبيرات السياسية الحزبية، التي ستتغير مكانتها ووظائفها، فلا تعود نرى الحراك بدلالتها الذاتية الضـيقة، بل ترى نفسـها بدلالة الحراك المجتمعي الشامل، الذي سيحد من انعكاسات خلافاتها علـيه وقدرتـها عـلى اختراقه، وسيطـورها نحو الأفضل، وسيدمجها في عالمه السياسي المدني الرحيب، بدل أن تدمجه هي في عالمها الحزبي الجزئي والخانق.

كيف يجب أن يعمل «المنبر» من اجل تحقيق هذه النقلة النوعية في العمل النضالي الخــاص والعام، عمل المواطن وعمل الجـماعة الوطنـية، علـما بأنه يتوقــف عليــها نجــاح «المنبر»، أي تحوله إلى إضافة مفصلية من طبيعة نوعية في حراك وسياسة سوريا؟

كاتب وناشط سياسي ـ سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى