هل قرأنا القرآن أم على قلوبٍ أقفالها؟/ يوسف الصديق
يتساءل يوسف الصديق في كتابه: “ما الذي جعل القرآن غير قابل للقراءة المأذونة إلا بوساطة رجال الدين؟ ومن الذي بَوَّأَ رجل الدين سلطة التعهّد بقراءة ما، ثم الأمر بترديد ما وقف عليه؟ وما بال هذا النص البديع يأتي إلى مسامعنا في تلاوة رتيبة فنستبدل طاقته في بث بعده الكوني بسبات شتوي في فضاءات أرشيفنا العربي الإسلامي المنخورة؟”.
يمتنع القرآن بهذه المساحة النصيّة المفتوحة أبدًا على اللامحدود، عن تزويد المؤسسة السياسية بركائز يعتمد عليها . فقد أظهرت الفتنة الكبرى التي حدثت في وقت بعيد، أو ربما بسبب نزول الكتاب، وفي وقت كان لا بدّ أن يحل فيه قدر مأساوي مزلزل ظلّ مكبوتًا هو الآخر، أظهرت أن أسباب ذلك الشرخ الكبرى لم تكن اختلال موازين القوى ونشوب الخصومات بقدر ما كانت ترجع إلى تلك الهجمة العمياء الدامية من قبل ورثة النبي المرسل على فضاء نصّي غير مفهرس ولا معلّم ولا مرموز. كلّ مدخل من مداخله التي لا حصر لها، بات يشكّل مسلّمة أو مبدأ، أو قل ذريعة للحرب إذا ما تعذّرت المخارج. وهكذا تعامل الأمويون، وهم عشيرة عثمان وأكبر المنتصرين على أرض المعركة، مع هذا الفضاء. فخلال طول فترة حكمهم التي دامت تسعين عامًا، لم يكن يوجد غير مجالين اثنين من المعرفة؛ هما النحو وجمع التراث الشعري الجاهلي، قد استخدما لتوسيع سطوة هذا الفضاء النصّي بعد تحويله إلى أرض قاحلة.
أتيحت الفرصة لمعرفة فلسفية خالصة أن تظهر عند ترهّل الحكم الأموي. هذا وإننا لا نملك حتى اللحظة أي دراسة موثوق بها، تستند إلى وثائق تاريخية ـ قد تكون اندثرت ـ حول هذا المنعطف الذي اتخذته المعرفة والسلطة، هذان العنصران المتلازمان، ضمن المشهد الإسلامي. لكننا إن أخذنا الأخبار الواردة إلينا على عواهنها، نقف مندهشين أمام ما اتخذته المعتزلة، هؤلاء المفكّرون الذين جمعوا بين التآمر السياسي والتأمّل الميتافيزيقي، فقد مضوا في البحث عن منزلة من يباغته الموت لحظة قيامه بمعصية رغم عدم إنكاره للعقيدة، وهو ما يشكّل قضية لا أثر لها في النصّ القرآني، أو بمعنى آخر منزلة الإنسان أمام الربوبية، وهو ما رسم مشروعًا حقيقيًا في إعادة تهيئة النصّ المقدّس.
منذ انتصاب سلطة العباسيين الجديدة، التي كان للمعتزلة يدٌ في قيامها، عُرض هذا المشروع ونوقش ودُعم في أجواء من الصخب والمحاكمات وعبر إحدى لوازمه الأكثر خطورة، وهي طبيعة النصّ القرآني تحديدًا. ففي ما يتعلّق بالخلافة التي أصبحت آنذاك المحرك الأوّل للنقاش بين المذاهب، دار الجدال حول رفع الوهم القائم على أن النصّ غير مخلوق، وأنه نزل على حال مكتملة من الجمال والكمال والأبدية. وقد أمر الخليفة المأمون بقمع العلماء الذين يأبون الأخذ بفكرة مخلوقية القرآن على غرار سائر مخلوقات العالم الأخرى.
مضى القائلون بالتباس النصّ القرآني في هجمة معاكسة، اتخذت شكل معرفة نقيضة متمثّلة في عملية واسعة في جمع الأحاديث والسير النبوية، وخاصّة في فهرسة شاملة للمسائل الشرعية، التي أورد النصّ القرآني بعض مفاتيح حلّها إيجازًا أو إضمارًا. وقد اجتمعت على أثر هذه الهبّة الجديدة ضدّ العقلانية الفلسفية، كل ظروف النصر “الموسوعي” والشرعي، زمن الإمام الرابع أحمد بن حنبل. ذلك النصر المضاعف المتعلّق بتلك المسألة الخاصة بالنصّ القرآني، التي أصبحت أساسية وضرورية، وهذا ما دفع الفيلسوف إلى آخر معاقله وأخرجه بذلك من المساحة السياسية. ومنذ ذلك الحين لم يكن أمام الفيلسوف سوى أن يظهر بثوب الطبيب أو الموظف المتحمّس أو القاضي أو الكاتب، لكنه لم يفتأ رغم ذلك يحمل حلمًا ظلّ ينشده الفكر الفلسفي على أرض الإسلام: حلم تطويع النص اللامحدود من أجل إيجاد موقع للسياسي على أساس إنساني وأرضي، كما هي الحال في جمهورية أفلاطون أو في دستور الأثينيين لأرسطو مثلًا.
العربي الجديد