هل من أجل هذا يموت السوريون؟
نهلة الشهال
حسناً فعل برهان غليون، رئيس “المجلس الوطني السوري” العتيد، إذ قطع الشك باليقين وأعلن بوضوح انحيازه للغرب، قوى ومخططات وأهدافاً وتصورات، وموضع نفسه ومجلسه في معسكر ذلك الغرب. وهذا على أية حال هو سر انتشار تصريحاته الاخيرة لصحيفة “وول ستريت جورنال”، التي لفَّت العالم، وتُرجمت الى كل اللغات، متفوقة في “أهميتها” على كل ما سبق له أن نطق به هو واترابه في ذلك المجلس.
تثير تلك التصريحات مجموعة مسائل متشابكة تتعلق بتحديد ما يطمح له السوريون، ويموتون من أجله يومياً، متحدين آلة القتل التي تفتك بهم. وأولى تلك المسائل وأبسطها بالتأكيد، أن السيد غليون يتصرف كحاكم سوريا المقبل، وكأن كل الكلام عن الديموقراطية التي ينبغي تأسيسها بعد عقود الاستبداد ليست سوى تنميق كلام، عدة شغل، بينما “يعرف” الرجل أنه ومجلسه سيحكمان البلد، بل والأفدح، أنهما قررا منذ اليوم برنامج ذلك الحكم ومنطلقاته. أين السيرورة يا بروفيسور، تلك التي تجعل السلطة حصيلة عملية صراعية جارية ومتغيرة وفق المعطيات، وتلك التي تخضعها لتوازنات القوى لحظة الانجاز؟ لا بأس، فلن نعيب على غليون في حمأة ما يعيش نسيانه، ما درَّس في قاعات الجامعات، وما كتب في مؤلفاته. ثم ان ذلك ليس بيت القصيد… وإن كانت أحلام رئاسية كهذه يبدو أنها راودت غليون قبلاً، كظهوره عشية عيد الاضحى على شاشة الجزيرة متأنقاً، وقوراً، يحيط به علم سوري عن يمينه وكتب مرصوفة عن يساره، مذكرة بأنه استاذ جامعي ومثقف. ومن فرط سوء الاخراج، وبينما هو يوجه خطابه الى “الشعب السوري العظيم”، كان ثمة ما يوحي بأنه سيتلعثم ويُخرج “يا شعبي العزيز” على عادة الملوك! مرَّ ذلك الخطاب مرور الكرام وسط السخرية التي أثارتها الوضعية المفتعلة، ولأن ما نطق به كان عمومياً مبدئياً مستخرجاً من بطون الكتب المرجعية المختصة، مما لا يقدم ولا يؤخر. بينما التصريحات الاخيرة سياسية بامتياز، تخاطب بشكل ملموس الغرب وإسرائيل والدول العربية التي تدور في فلكهما وتعلن انتماءها لهم.
لكن المسألة الأهم تتعلق بوظيفة هذا الكلام، ليس كبرنامج حكم مستقبلي، بل الآن. مؤدياته الوحيدة اليوم هي رفع سقف الاستنفار والاستقطاب المذهبيين المستعرين في المنطقة، والانخراط في الحرب الاستراتيجية الجارية في العالم، وأقطابها بلدان كروسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا من جهة أخرى، والحلفاء المتغيرين أحياناً، بحسب المواضيع والاماكن، لكل من المحاور.
وتتخذ تلك الحرب في منطقتنا عنواناً مبتسراً، فرضته الآلة الاعلامية والدبلوماسية الغربية، هو الصراع المفتوح حول إيران. لكنها تتضمن فعلياً، وعلى ذلك، طموحات الهيمنة على مصادر الطاقة والثروات في المنطقة بمجملها (اكتشف حديثاً مثلا أن في العراق أهم مناجم للفوسفات في العالم، وفيه وفي مواقع أخرى من المنطقة، يورانيوم ومعادن نادرة…)، وعلى الممرات الاستراتيجية والاسواق. وكما تقول الصين وروسيا، فثمة مخططات لمحاصرتهما وخنقهما تنفذ مباشرة اليوم، وهي تشمل أيضاً إحكام السيطرة على دول صاعدة ومنعها من التفلّت من سطوة وتحكم الغرب. وليست أزمة هذا الاخير الاقتصادية البنيوية سبباً في تراجعه عن ذلك، بل على العكس، فقد تكون دافعاً لمزيد من الشراسة بكل صورها. ولا يوجد غير ذلك كله ما يمكنه تفسير الصراع حول الدرع الصاروخية الاطلسية مثلاً، التي نوت واشنطن نشرها في بلدان أوروبا الشرقية، وانتهت الى وضع واحدة من قواعدها في تركيا مؤخراً، كما لا يوجد تفسير آخر لـ”العقد الآسيوي” الذي بشر به أوباما ووزيرة خارجيته، والذي يتضمن نشر قواعد عسكرية جديدة وابرام اتفاقات تعاون متنوعة مع بلدان تحيط بالصين من كل صوب.
هي إذاً الحرب الاستعمارية نفسها إنما بأدوات جديدة قد لا تتضمن ـ دوماً ـ الاحتلالات المباشرة، وتحمل فوارق هامة متعلقة بحلول خطاب قومي وليبرالي وتنافسي في آن، محل الايديولوجيات التي كانت تؤطر تلك المجابهة، ما قد يترك المجال لتصبح الصين مثلاً دولة استعمارية عظمى! وذلك تحديداً يعيد الاعتبار كما لم يحدث من قبل، للمسألة العامة، التي تخص كل البشر والامم، تلك التي تتناول نوعية الحياة المطلوب الدفاع عنها، ومنظومة القيم المفتقدة التي لا بد من العكوف على صقلها وإعادة بلورتها، كي ينتقل العالم بأسره من حالة الحروب المتجددة ابداً، ومن شرعنة استغلال واضطهاد أمم لأخرى، الى أفق آخر.
ولا يمكن لبرهان غليون أن يجهل كل ذلك، ولا يمكنه تبرير مواقفه بالاحتماء خلف حاجات لحظوية تكتيكية، وإلا تحوَّل هو ومجلسه الى أداة صغيرة في الصراع الفعلي الدائر في العالم وفي المنطقة، والذي قيض لسوريا، بحكم موقعها الجيواستراتيجي واشتباك مسارها مع معطيات أخرى، أن تحتل واحدة من نقاطه الاساسية.
سوريا اليوم نقطة تقاطع بالغة الاهمية، لا معادل لها في المنطقة. فإن جنحت الامور فيها الى الاحتراب الاهلي الطويل والتفكيكي، فسيلحق بها العراق الذي يعاني من اهتراء مديد في أحواله، ومن استقطابات مأزومة، وكذلك لبنان. وستجد تركيا نفسها في الدوامة ايضاً. ومشروع السيد غليون دفع مجلسه الى رفض المبادرة العربية نفسها عند اعلانها مخافة أن تكون حلاً لانتقال سلمي للسلطة، مشروعه الذي يتكلم ببراءة مصطنعة عن “ممرات انسانية” و”مناطق حظر طيران”، (وهو يعرف تماماً أنهما إعلان حرب ويتطلبان تدخلاً عسكرياً لفرضهما)، لا يوفر لا تصوراً لمرحلة انتقال سلمي للسلطة، تُبقي سوريا المجتمع والدولة موحدين، ولا شروط مثل هذه المرحلة، بل هو تأطير للاحتراب الأهلي الطويل. وهو مشروع ينتمي الى طينة ما يرتكبه النظام السوري نفسه، الذي يرد على مطلب التغيير بالقمع و”الحل الامني”، منظماً هو الآخر الاحتراب الاهلي الطويل، التفكيكي لسوريا والمنطقة برمتها. والتحجج بالنظام السوري وممارساته ليس تبريراً، فهذا النظام ينتمي الى الماضي، والمطلوب تجاوزه وليس إعادة انتاجه بصيغة معدلة.
ويبدو أنه ثمة من أسرَّ في أذن السيد غليون (وهو كان أفضل عناصر قيادة هذا المجلس، لأن معظم الآخرين من متصدريه مرتبطون أصلاً بصورة معلومة وموثقة بدوائر استخبارية غربية) بأن واشنطن عازمة على المضي في هذا الملف الى آخر أشواطه. وهو واترابه وضعوا ثقتهم بذلك، ما يفسر إقدامهم الشديد، الذي يرتدي أحياناً لبوس الحماقة المفضوحة، ويضع هذا الموقف المنحاز الى مشروع واشنطن وباريس ولندن وتل ابيب، ومعها عواصم محلية مستلحقة، بعضها يمد بالمال أو بالسلاح أو بالتغطية الاعلامية، يضع المجلس في مصاف الثورة المضادة، تلك التي تُهدد منذ اللحظة الاولى لفعلها آمال السوريين في الحرية والعدالة، وفي نظام سياسي تعددي وديموقراطي يدير مجتمعاً مزدهراً تُحترم فيه كرامات ابنائه وحقوقهم كافة. الثورة المضادة التي تتكلم محل السوريين فتضعهم في موقع المتواطئ مع إسرائيل مثلاً (عبر بلاهة”استعادة الجولان بالمفاوضات”)، والاخطر من ذلك، أنها تشطب كيانية بلدهم ومجتمعهم، وتقذف بهم الى اتون “حرب المئة عام” التي تهدد بالانفجار في المنطقة.
وتلك مفارقة: فالسيد غليون ومجلسه يدّعون قيادة الثورة. ولعله قد حان، بإلحاح شديد، وقت أن تستعيد الثورة السورية كلامها من هؤلاء.
السفير